المعرفة الكامنة

تنبيه: إن كنت مستعجلاً فيمكنك أن تجتاز التقديم و تنتقل إلى النصّ الأساسيّ مباشرة.

في الرسم العلوي إلى اليسار ترى مسارين بين نقطتين. هل تجد أيّ مبرّرٍ لأن يترك شخص المسار المستقيم و يسير في المسار المنحني؟ ”في هذا الرسم لا أجد، فالمسار المستقيم يبدو أقصر من المسار الآخر.“ هذه إجابةٌ جيّدةٌ و حذرة، فالاطّلاع على أيّة معلومةٍ إضافيّةٍ قد يغيّر حكمنا؛ مثلاً:

  • أوّل ما قد تفكّر فيه و قد اجتزت الرسم الهندسيّ هو: ‏”هل المسار المتّصل فعلاً أقصر من المسار المتقطّع؟“ و بالنظر إلى المسقط الجانبيّ قد تكتشف أنّ المسار المتصّل هو الأطول كما يوضّح الرسم الثاني.
  • كمثالٍ عمليّ للنقطة السابقة ترى في الرسم الثالث خريطةً كنتوريّةً يتّضح فيها المساران. هنا ترى أنّ السير في خطّ مستقيم يتضمّن صعود الجبل الذي يلتف حوله المسار المنحني. أيضاً في نفس الخريطة لك أن تتخيّل خطّ الكنتور المنطبق على المسار المنحني شاطئاً لنهرٍ، حينئذٍ قد نفضّل الإبحار على السير برّاً لنقل بعض البضائع مثلاً.
  • سببٌ آخر مختلفٌ تماماً يتضّح من الخريطة المدنيّة في الرسم الأخير. هنا يسافر الشخص المعنيّ من ’أكا‘ و يتزوّد بوقودٍ و مؤنٍ إضافيّةٍ من السوق في ’أتا‘، ثمّ يزور بعض أقاربه في ’أدا‘ قبل أن يتجه إلى وجهته الأساسيّة، ’أيا‘. كان في إمكانه إن يسلك الطريق المباشر إلى أيا، لكنّه فضّل أن يستفيد من منافع إضافيّةٍ في الطريق الطويل.
  • يمكنك أن تعدّد أمثلة كثيرة أخرى. مثلا يمكن أن تكون ’أكا‘ و ’أتا‘ و ’أدا‘ و ’أيا‘ محطّاتٍ للمواصلات، و إن يكون الشخص المعنيّ سائق مركبةٍ عامّةٍ يفضّل الطريق الطويل على الطريق الخالي من الركّاب. كذلك يمكن أن يكون اختيار الطريق الطويل لتجنّب الحفر و المطبّات في الطريق القصير. و ربّما كان الطريق القصير مزدحماً فأصبح أطول باعتبار الزمن.
  • هنالك مثالٌ آخر يهمنّا كثيراً، و هو أن يكون الطريق الأطول جميلاً تحيط به الأشجار و المناظر من جانبيه، و الطريق الأقصر مملاًّ يقطع صحراء جرداء. هنا يكون الكسب في السير في الطريق الأطول معنويّاً لا مادّياً.
  • في مقابل كلّ هذا هنالك احتمال عدم وجود مبرّرٍ مقبولٍ للسير في الطريق الطويل: أن يكون الشخص سار فيه ’كِدَه‘! هذه حالة تحدث كثيراً، فلا ينبغي إهمالها..

كَيْفَ أمكن تخطيط هذه الكلّيّة بدون أيّ اعتبارٍ لأيّة خرائط أو مخطّطاتٍ؟؟!! لا الوضع الاجتماعي للطالب و لا وضعه الاقتصاديّ و لا حالته النفسيّة و لا المعنويّة و لا العاطفيّة (في جامعة مختلطة!) و لا رغباته و لا مزاجه و لا اعتباراته الدينيّة.. كلّ هذا لا يؤخذ في الاعتبار؟؟!! ماذا بقي إذن؟؟!! لديّ إجابةٌ على هذه الأسئلة، و لديك إجابةٌ، و ننتظر إجابةً من هيئة التدريس، أو الجهة المسئولة أيّاً كانت؛ لكنّنا لن ننتظرها طويلاً: لَسْنَا نريد الآن أن نحاسب أحداً أو نعاقبه. لن يفيدنا تبادل اللوم كثيراً. كلّ ما نريده الآن تعليمٌ أفضل من أجل مجتمعٍ أفضل. الآن نواصل ما بدأناه في الورقة السابقة من مناقشة بعض المفاهيم الهامّة في التعليم..

(6) أسلوب التعليم‏

الأسلوب المُعتمَد عليه في التعليم في هذه الكلّيّة هو التلقين: يمثّل الأستاذ منبعاً للمعرفة و يمثّل الطالب مصبّاً لها و تمثّل المحاضرات قناة نقل المعرفة. فلنسرد بعض أوجه قصور هذا الأسلوب:

  • المعارف الصالحة للنقل بهذه الطريقة تكاد تنحصر في المعلومات المجرّدة، فكثيرٌ من المعارف كالخبرة و الفنون و الأساليب و التربية الوظيفيّة قد يتعذّر نقلها بهذه الطريقة. حتّى المعلومات تصل إلى الطالب ميتةً خاليةً من أيّ عمقٍ أو إحساسٍ أو ارتباط.
  • لأنّ الطلاب جميعاً يتلقون المعرفة عبر نفس القناة فإنّ حجم المعارف المتداولة في الكلّيّة كلّها يكون صغيراً، كما ترى في الواقع أمامك.
  • التلقين يفرض المعرفة عند الطلب التي ناقشناها من قبل، و اجتماعهما معاً يؤدّي إلى واقعنا الجميل هذا. مثلاً لو نسي الأستاذ أن ينقل معلومةً ما للطلاّب فمن (ما) ذا يذكّره؟ و لو أعطى معلومةً خاطئةً فمن (ما) ذا يصحّحه؟
  • ليس هنالك معالجةٌ لحالةٍ مثل: المنبع لا يملك المعرفة المطلوبة.
  • ليس هنالك معالجةٌ لحالةٍ مثل: المصبّ يملك المعرفة المطلوبة؛ فالطالب مثلاً ملزمٌ بحضور المحاضرة حتّى لو لم يكن فيها أيّ جديدٍ بالنسبة له.
  • ليس هنالك استفادة من حالةٍ مثل: المصبّ يملك معرفةً أكبر من المنبع؛ اتّجاه المعرفة دائماً واحدٌ.

هنالك عدّة بدائل للتلقين (لن نفصّل فيها) تعتمد على فلسفة يمكننا أن نسمّيها ’المعرفة الكامنة‘. الفكرة تتلخّص في أنّ نفس المعرفة المطلوبة عند المتعلّم يمكن الحصول عليها من مصادر متباينةٍ: يمكن أن نجعله يستخرجها (يستنبطها) من عقله، يتعلّمها من كتابٍ، من زميله، من الأستاذ، من تجاربه.. مثلاً العمل الجماعيّ يمكن أن يتعلّمه الطالب من مشروع التخرّج و يمكن أن يتعلّمه من خلال اللعب في فريق الكلّيّة! و مهارة الاتّصال يمكن أن يتعلّمها من خلال السمنارات و يمكنه تعلّمها من خلال المشاركة في أنشطةٍ طلاّبيّةٍ محضةٍ. هيئة التدريس في هذه الحالة لن تمثّل منبعاً للمعلومات (فحسب) بل تمثّل إدارةً (كنترول!) تتحكّم في تدفق المعرفة في النظام كلّه، و توجّه الطالب باتّجاه المصدر الأقرب و/أو الأنسب للمعرفة المطلوبة. يمكننا أن نلاحظ الميزات التالية في هذه الفلسفة:

  • تعالج أوجه القصور في التلقين المذكورة آنفاً.
  • مصادر المعرفة المتباينة تعطي المعرفة في مضامين (Contexts‏) مختلفةٍ يمكن للإدارة أن تختار الأنسب منها.
  • هذه الأنظمة تناسب المعرفة عند الحاجة، و قد ناقشنا من قبل ميزتها على المعرفة عند الطلب.
  • يمكن أن تكون بيئة التعلّم حقيقيّةً بدلاً من أن تكون محاكاةً (‏Simulated‏)، و عندها يمكن أن تتحوّل المؤسّسة التعليميّة إلى جهةٍ منتجةٍ بدلاً من أن تكون مستهلكة؛ فيمكن مثلاً إعادة تخطيط الكلّيّة في شكل مؤسّسةٍ هندسيّةٍ ذات هيكلٍ وظيفيٍّ يمثّل الطلاّب فيها مهندسين و موظّفين تحت التدريب. و لك أن تتصوّر الأثر المعنويّ لشعور الطالب حينئذٍ بأنّه يكتب تقارير حقيقيّةً و يؤديّ عملاً حقيقياً سينتج عنه ربحٌ أو يستفيد منه أحد.
  • تعتمد هذه الأنظمة على الفرح بالأداء الجيّد و الرضا عن النفس كقوّةٍ دافعةٍ. راجع الورقة السابقة.
  • ترتبط هذه الطريقة بشدّةٍ بالنشاط؛ و لن نقول هنا عن النشاط إلاّ أنّه مطلبنا الذهبيّ.

في نهاية هذه الورقة نقدّم الملاحظات التالية:

  • تحدّثنا عن ’المعرفة‘ دون ضبطٍ للمصطلح، و هي تشمل هنا المعلومات و الخبرات و الفنون و المهارات.. كلّ ما يمكن تعلّمه.
  • ليسمحْ لي القارئ بأن أصف التعليم بالتلقين في الجامعة بأنّه فكرةٌ ساذجةٌ بنيت على افتراض أنّ وجود ركام من المعلومات لدى الطالب كافٍ لتحقيق المعرفة المطلوبة. و إذا كان هدف التعليم العالي هو التربية الأكاديميّة و المدنيّة فالتلقين لا ينفع. أمّا أقلّ ما يمكن أن يقال في حقّه فهو أنّ التلقين لا يناسب الجامعة التي يعتمد عليها القُطر في إعداد قادة المجتمع.
  • المعرفة الكامنة ليست نظاماً معيّناً بل هي فلسفةٌ يمكن أن يبنى عليها عددٌ من الأنظمة التعليميّة. و إذا استطعت أن تربط الأمثلة المذكورة في مقدّمة هذه الورقة بالنصّ الأساسيّ فستتضح لك معالم الفكرة.
  • ليس من الضروري اقتلاع أسلوب‏ التلقين لبناء نظامٍ قائمٍ على المعرفة الكامنة. فلو استطعنا توفير مساحةٍ مريحةٍ للنشاط فسيكون في الإمكان إنشاء نظامٍ قائمٍ على المعرفة الكامنة يوازي النظام الرسميّ في الكليّة، أقلّ ما يقدمّه للطلاّب من معرفة المهارات الوظيفيّة و مهارات الاتّصال.
  • رغم الصياغة الأدبيّة، و رغم التقديم الطويل، أعتبر هذه الورقة من أفضل و أهمّ ما كتبت.

يا بحراً تجاوز في سكونه كلّ حد! ربّما تكون هذه آخر ورقةٍ أنشرها في هذه الكلّيّة. أرجو أن أكون قد وفقت في شرح فكرتي في هذه الورقة و غيرها؛ رغم أنّني لم أتمكّن من قول كلّ ما أردت قوله. سأحاول إن شاء الله أن أجمع كلّ ما نُشِر في كتيّبٍ صغيرٍ. أرجو أن تجد هذه الأفكار من يتبنّاها، يناقشها، يفنّدها، ينفّذها..‏

This entry was posted in Arabic, السديم and tagged . Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *