خيارات وبدائل

ناقشنا من قبل عدداً من مظاهر الخلل في تخطيط هذه الكلّيّة نرجو أن يكون كافياً لإقناع الجميع بضرورة مراجعتها جملةً، ثمّ أشرنا بعد ذلك إلى أنّ تحقيق المصلحة العامّة هو هدف جميع مؤسّسات القطاع العامّ. فالوقت مناسبٌ الآن لمناقشة بعض المفاهيم التي تبنى عليها فلسفة مؤسّسةٍ مثل كلّيّة الهندسة و العمارة. فيما يلي نتحسّس بعض هذه المفاهيم من الواقع و نقارنها ببعض البدائل.

(1) الحاجة للتعليم

يمكنك أن تستشعر من الواقع أنّ المفهوم السائد أنّ الطالب هو المحتاج الوحيد للتعليم، و هو المسئول عن فشله، لأنّه هو الخسران الوحيد؛ كأنّما تقول الكلّيّة للطالب: ”دي طريقتنا كِده كان ما عاجبك سيب الجامعة!!“ و المؤسف أنّ كثيراً من الطلاّب تنقطع صلتهم المعنويّة بالجامعة و يصبح وجودهم و حضورهم مجرّد استجابةٍ للضغوط الاجتماعيّة. بهذا الأسلوب الأحمق يخسر السودان كلّ عامٍ آلاف الطلاّب (في مختلف الكلّيّات و مختلف الجامعات) الذين أُنفق على تعليمهم لأكثر من عشر سنواتٍ. و حتى لو لم يُنفَق على تعليمهم فإنّ عقولهم وحدها ثروةٌ مهدرة. حتى الذين يجارون طريقتهم هذه ينتظرون اليوم الذي يتخرّجون فيه ليهربوا خارج البلد.

النظرة التي نراها سليمةً هي أنّ المجتمع محتاجٌ للخرّيج، و على هذا تكون فلسفة كلّيّة الهندسة مثلاً: ”دفع المصلحة العامّة من خلال مدّ المجتمع بمهندسين مبدعين ناجحين..“ بدلاً من أن تكون: ”دفع المصلحة العامّة من خلال تقديم دراسةٍ هندسيّةٍ جيّدةٍ لألفي طالبٍ من أبناء المجتمع..“ و الفرق بين الاثنين كبيرٌ جدّاً. و الغريب أنّ النموذج الأخير – و هو المطبّق حاليّاً كما يقول الواقع – كان ينبغي له أن يكون أكثر حرصاً على رضا و سعادة الدارسين، و لكن من يكترث! أمّا في نموذجنا المطلوب فإنّ رضا و سعادة الدارسين جزءٌ تكميليٌّ ضروريٌّ لأنّنا نحتاجهم. و كذلك يمكن أن يدخل ضمن مراعاة المصالح الخاصّة للأفراد عند التخطيط للمصلحة العامّة، إذ أنّ حاجة المجتمع للطلاّب لا تبرّر إهمال رضاهم و سعادتهم أو جرَّهم في الشوك.

(2) قيمة النجاح

تعليم الطلاّب يمكن أن يتمّ في بيئةٍ حقيقيّةٍ أو محاكاةٍ (‏Simulated‏)، و الأخير هو الغالب عندنا، أمّا اختبار الطلاّب فيتمّ غالباً في بيئةٍ محاكاةٍ، لضرورةٍ أو لأخرى، و تكون النتيجة الإيجابيّة للاختبار من شاكلة: ”وصلته الفكرة“ أو: ”قادرٌ على الإبداع“ أو: ”قادرٌ على النجاح.“ و هذه مؤشراتٌ تهمّ المؤسّسة التعليميّة ثمّ المؤسّسة المخدّمة فيما بعد أكثر ممّا تهمّ الطالب. و إن صحّ ظنّي فهذا هو السبب في حجب نتائج كثيرٍ من الاختبارات عن الطالب. لا أقول أنّ هذه هي السياسة الأفضل، و بالتأكيد لن تكون الأفضل إن لم نكن ندرك بالضبط كلّ ما نفعله. ملخّص ما أردت قوله أنّ القيمة المعنويّة لدى الطالب للنجاح في بيئة محاكاةٍ يجب ألاّ تكون كبيرةً لدرجةٍ تؤثّر تأثيراً بيّناً على عمليّة التعليم نفسها. لشرح المفهوم نذكّر بمبدأ الشكّ: «ليس من الممكن تعيين مكان و كميّة تحرّك إلكترون بدقّة في نفس اللحظة،» و اعتمد هيزنبرج في برهانه على أنّ أيّ محاولةٍ للقياس في نظامٍ تحدث اضطراباً في هذا النظام، فمثلاً لتحديد مكان إلكترونٍ برؤيته ينبغي أن ينعكس فوتونٌ على هذا الإلكترون، لكنّ اصطدام الفوتون بالإلكترون يؤثر في كميّة تحرّك الأخير فيعطي نتائج مضلّلة.. و لأنّ أشياء مشابهةً تحدث كثيراً للطلاّب عند اختبارهم فإنّ مبدأ الشكّ قد ينطبق عليهم. فلكي لا يكون الشكّ كبيراً يمكن مراعاة الآتي:

  • تخفيض القيمة المعنويّة للنجاح في الاختبار لدى المتعلّم لكي نحصل على نتائج واقعيّةٍ بدلاً من أن يعدّ الطالب نفسه خصّيصاً للاختبار فيعطي نتائج مضلّلة.
  • تخفيض عدد الاختبارات، بزيادة كفاءة الاختبار الواحد، لخفض أثر الاختبارات على عمليّة التعليم.
  • تحسين بيئة الاختبار لتعطي تقريباً دقيقاً لما سيحدث في الواقع العمليّ.
  • استشعار وضع الطالب بدون أن يشعر ما أمكن ذلك.

في نظامنا الموجود حاليّاً هذا كلّه لا ينفع، لأنّ القيمة المعنويّة للنجاح في الاختبار تعتمد عليها الكلّيّة كدافعٍ أساسيٍ لتفاعل الطلاّب مع التعليم – كما أشرنا إليه من قبل21؛ و هذا يضطرّنا إلى النقطة التالية..

(3) القوّة الدافعة

لو نظرت بعين المصلحة العامّة لربّما صنّفت الفرح بالمظاهر (النتائج؟) ضمن العادات غير المرغوب فيها، فهو الذي يجعل اللاعب يسدّد الكرة في المرمى حين يكون الأفضل تمريرها لزميله، و هو الذي يجعل الطالب ’يتبخ‘ القراءات و يفعل أشياء من هذا القبيل. و البدائل المقترحة له كدافعٍ للطلاّب الفرح بالأداء الجيّد و الرضا عن النفس و الفرح بالمحصّلة، و هي جودة المجتمع ككلّ. نقدّم الملاحظات التالية:

  • تحدّثنا عن الفرح بالمظاهر دون ضبط للمصطلح، معتمدين كثيراً على فهم القارئ. و الحديث يشمل كذلك التخوّف من النتائج السالبة. جديرٌ بالقول أنّ الفرح بالمظاهر أسوأ ما يكون في بيئةٍ محاكاة.
  • الفرح بالنتائج عادةٌ ينبغي تتبعها عند الشخص منذ الطفولة، فمجرّد الـ’خرخرة‘ في اللعب عند الأطفال يمكن أن تكون هي البداية.
  • مما يجعل التخلّص من هذا العادة صعباً أنّها أصيلةٌ لدى الآباء كذلك؛ أكثر الناس يريد أن يكون ابنه طبيباً أو مهندساً مشهوراً، لا أن يكون شخصاً ناجحاً قادراً على فعل الصواب و على إسعاد نفسه و من حوله أينما وُضِع.
  • كثيرٌ ممن أتى هذه الكلّيّة لأجل المعرفة و التعلّم دمّرتهم سياسة الكلّيّة المعتمدة على دفع الطلاّب بالنتائج (فساد التصوّر22!) هؤلاء كانوا آخر الناجين، أمّا الآخرين فقد أدركوا هذه النهاية مبكراً في مراحل التعليم العامّ.
  • هذا النقطة تحتمل كلاماً أكثر من هذا، فقد قدمناها هنا باختصار.

(4) المرور

من المفاهيم التي تستحقّ المراجعة مفهوم المرور (‏Pass‏)، و قبل أن أستأنف أذكّر بأنّ كلّ رأيٍ أقدمه قابلٌ عندي للنقاش و التعديل. هل كان منطقيّاً أن يكون المرور بالدرجة، مثلا 40٪؟ ماذا لو حُصّلت هذه الدرجة من أشياء ليست جوهريّةً؟ من مجرّد حفظٍ للقوانين؟ من طريق الصدفة؟ أريد أن أقدّم المقترح التالي، على أن يناقش في فرصة أخرى إن شاء الله:

«اختبار المرور يجب أن يجرى عمليّاً في البيئة الحقيقية أو في بيئةٍ بارعة المحاكاة، أمّا اختبار التقييم النهائي فيجرى بعد ذلك على الطلاب المارّين.»‏

مثلاً فقد مررنا من قبل في امتحانات التربية الإسلاميّة و أجبنا على كلّ أسئلة التجويد بدون أن نجيد القراءة من المصحف. و كذلك مررنا في امتحان البرمجة بدون أن نجلس أصلاً أمام حاسب نبرمجه. هذا كلامٌ فارغ. ما لم يقف الأستاذ أمام الطالب و يراه يبرمج بنفسه فلا ينبغي أن يجلس للامتحان أصلاً. و بالمقابل لو برمج الطالب أمام الأستاذ عمليّاً عدداً من البرامج الجيدة (التي تدل على استيعابه الفكرة) فينبغي أن يجتاز الامتحان و إن كانت درجته ضعيفة؛ ذلك لأنّ الدرجة الضعيفة في حالاتٍ كهذه كثيراً ما تشير إلى خللٍ في طريقة الاختبار. ثمّ أتساءل: كيف يرسب طلبتك في امتحانك في مادةٍ درّستها أنت؟

(5) المعرفة عند الطلب

هذه هي السياسة المتبعة حالياً أنّ الطالب لا يتعلّم شيئاً إلاّ عندما يُطلب منه ذلك. أقول: مهما كانت ثقة الطالب في المؤسّسة كبيرةً لا أظنّها تكفي لدفع الملل في التعلّم عند الطلب. البديل المقترح هو المعرفة عند الحاجة، و كما لا يخفى عليك فالطلب حالةٌ خاصّةٌ من الحاجة. عندما يشعر الطالب أنّه محتاجٌ لمعلومةٍ معيّنةٍ نتوقع أن يكون دافعه للحصول عليها أكبر منه عندما يطلب منه ذلك، و قد قالوا قديماً: «الحاجة أمّ الاختراع،» حينئذٍ تصبح مهمّة المؤسّسة التعليمية خلق حاجاتٍ لدى الطالب للمعرفة المطلوب تَوفُّرُها عنده فضلاً عن إشرابه هذه المعرفة بالأوامر. على الأقلّ حاولوا خلق فضولٍ عند الطالب و تشوّق للمعلومة قبل تقديمها له. جديرٌ بالذكر أنّ من ميزات هذا البديل مشابهته لواقع الحياة العمليّة، فبعد التخرّج لن يطلب أحدٌ من الشخص أن يعرف شيئاً معيناً؛ الحاجة فقط من يطلب.

أقترح الآن أن نقف هنا و نواصل لاحقاً إن شاء الله.

This entry was posted in Arabic, السديم and tagged . Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *