لا تكن أعمى

قد تقرأ في أحد كتب الإلكترونيّات ما يلي:‏

There is a tendency among beginners to want to compute resistor values and other circuit component values to many significant places, and the availability of inexpensive calculators has only made the matter worse. There are two reasons you should avoid falling into this habit…

‎هل ينطبق عليك كلامٌ كهذا؟ أذكر عندما كنّا في السنة الثالثة أنّنا كنّا نتبارى على أن نقدّم التصميم الذي يعطي النتيجة المطلوبة لخانتين عشريّتين، أي بدقّة 0.025٪، رغم أنّ الخطأ المسموح به كان 10٪. لكنّ أحداً من هذه التصاميم لم يعط النتيجة المطلوبة في المعمل. لماذا؟ إذا سألتك الآن أن تحسب التكامل فإنّ كثيراً من الناس قد يقول:‏

لقد اتّبعت الخطوات، و لكنّك لم تصل إلى النتيجة الصحيحة. لماذا؟ أنظر للرسم التالي و ستعرف السبب:

ألا تمنعك الفجوة الظاهرة في المنحنى من تطبيق القانون؟ فجواتٍ كهذه لم تمنع إدارة كليّتنا و طاقمها من تطبيق القوانين: عليك أن تسلّم التقرير حتى لو لم تجرِ التجربة، عليك أن تدرس البرمجة حتّى لو لم تجلس أمام الكمبيوتر في حياتك ..

بالنسبة لك: هل تساءلت يوما لماذا حفظت تلك القصائد في المراحل السابقة؟ لماذا حفظت تاريخ و جغرافيا العالم؟ و قبل أن أواصل أستدرك عليك استدراكاً هامّاً جدّاً: لا تسئ فهمي! هل تساءلت: هل نسير في الطريق الصحيح؟ هل تضمن لك مرتبة الشرف الأولى نجاحاً في العمل؟ يمكنك أن توجّه هذا السؤال الأخير لمن شئت من أساتذتك، و إن أجابك بنعم فلتقابلْني. لماذا لا تقف مرّةً واحدةً لتعرف في أيّ اتجّاه تسير؟ لماذا لا ترفع رأسك لتنظر إلى المنظر الكبير بدلاً من أن تظلّ مكبّاً ببصرك هكذا تحت أقدامك؟ أنا أعلم أنّ هذه الكلّيّة فاشلةٌ، لأنّها لو كانت ناجحةً لما كان هذا هو حالنا، إذ أنّ المهندسين هم الفئة المسئولة عن تقدّم و حضارة و عمران و اقتصاد بلادهم. أعلم أنّها فاشلةٌ لأنّه لا يقدر أحدٌ أن يقف ليشرح لي الهدف من كلّ ما مرّ بي منذ مجيئي إلى هذه الكلّيّة؛ لا يقدر أحدٌ أن يفعل ذلك؛ و لو فعل فلا يستطيع أن يقول أنّ هذه الخطوات حقّقت أهدافها؛ و لو قال فإنّ هدف هذه الكليّة هو تدمير الطالب فيها. أعلم أنّها فاشلة لأنّ المستوى العامّ لخرّيجها أدنى من المستوى العامّ للمقبول بها. هذه براهين مختصرةٌ و كافيةٌ، و لكنّها ليست بجيّدةٍ، لأنّها قلّما تساعدنا في علاج هذا الفشل، لذلك أبدأ في عرض برهانٍ أفضل. بسم الله.

ما هي الهندسة؟ ما الذي تتوقّع أن تجده في هذه الكلّيّة؟ رغم أنّ الإجابة على هذا السؤال يجب أن تكون متوفّرةً للطالب قبل أن يختار بين الأحياء و التخصّص و الأدبيّ في الشهادة السودانيّة إلاّ أنّك لا تقف على تعريفٍ واضحٍ إلاّ في عامك الرابع في هذه الكلّيّة. هذا فقط ليعرف كلّ برلوم حجم الجدل الذي نعيش فيه. فلننتقل بهذا البرلوم إلى السنة الرابعة و لنقرأ هذا النصّ من كتاب الاقتصاد الهندسيّ:‏

Engineering is the profession in which knowledge of the mathematical and natural sciences gained by study, experience, and practice, is applied with judgment to develop ways to utilize economically the materials and forces of nature for the benefit of mankind.

ها قد اتّفقنا على تعريفٍ لمهنة الهندسة، و لتذكر أنّ الهندسة مهنةٌ و ليست علماً نظريّاً يتمّ في معمل أو على سطح منضدةٍ، و هي من أكثر المهن احتكاكاً بفئات المجتمع من العلماء مروراً بالسياسيين و القانونيين و حتّى العمّال. ثمّننتقل إلى ضبطٍ لمعيار النجاح عند المهندسين فنقرأ في ذات الكتاب:‏

Thousands of engineers can design bridges, calculate strains and stresses, and draw up specifications for machines, but the great engineer is the man who can tell whether the bridge or the machine should be built at all, and how, where it should be built and when.

ثمّ تقرأ في تصنيف المهندسين:‏

Engineering practice may either be responsive or creative, and engineers may be classified accordingly.
The responsive engineer acts on the initiative of others and restricts himself to the physical environment. In many ways, he is more of a technician than a professional man. Consequently he will find employment as a technologist, but not as an engineer in the broad sense, and he will only have a slim chance of holding a post such as a head of a government department or a company director. The engineer who has no understanding of the laws of economics is likely to remain underlying.
The responsive engineer is, therefore, a direct hindrance to the development of the engineering profession.
The creative engineer not only seeks to overcome physical limitations, but also initiates, proposes, and accepts responsibility for the success of projects involving human and economic factors. He believes that he should be as concerned and knowledgeable about the economics of his projects and plans as about their scientific and technological aspects. The creative engineer plays an active role in the economic evaluation of projects. Such evaluation helps to ensure that decisions are made wisely so that a project is undertaken in a way which gives it the best chance of success.

بناءً على ما تقدّم يمكنك أن تسأل سناير و خريجي الكلّيّة: هل توجّه الكلّيّة الطالب لأن يكون مهندساً مبدعاً أم مستجيباً؟ و سيجيبونك بالأخرى. لكن مع الأسف ليست هذه هي الحقيقة، فالمهندس المستجيب ينفّذ ما يطلب منه (بإتقان)، أما الطالب في هذه الكلّيّة فهو ’يترّس‘ و ’يطبخ‘ ما يطلب منه: بعيدٌ كلّ البعد عن معنى الهندسة؛ و لعلّ الاعتماديّة ‏reliability‏ و المسئوليّة ‏responsibility‏ من أهمّ صفات المهندس.

حتّى هذه اللحظة ما زلنا نتحدّث عن وضع الكلّيّة بأسلوبٍ أدبيٍّ بدون أن نفصّل ما نعيبه عليها. يمكنك الآن (و الخطاب هنا للبرالمة) أن تأخذ فكرةً عن وضع الكلّيّة و أسلوب التعليم فيها باستطلاع السناير. يمكنك أن تفكّر في ما قرأت في هذه الورقة؛ و قبل أن تفعل أوجّهك بأن تقرأ الفصل الأوّل في كتاب الاقتصاد الهندسيّ لـ د. أبو الجوخ، و أن تقرأ شيئاً في علم الإدارة مما يقرأه طلاّب السنة الرابعة. و أوجّهك أيضا لأن تقرأ بعض الأوراق التي نشرها الكاتب مثل تلك المعنونة ”دعوةٌ عامّة“ أو ”إلى البرالمة الأعزّاء“. يمكنك كذلك أن تقرأ مزيداً من النقد لسياسة التعليم في هذه الكلّيّة، مع عرض نماذج بديلة، في ما سينشره الكاتب إن شاء الله.

إن أخبرك أحدٌ أنّني قد كذبت عليك في كلمةٍ مما قلت فليرشدْك إلى مكاني لتحاسبني على ذلك. و بعد: هل تشعر بخيبة الأمل لأنّ الكلّيّة ليست ما كنت تريد؟ لا عليك. أنت لم تكن في الحزب الشيوعيّ السودانيّ إبّان انهيار الاتحاد السوفيتيّ؛ لم تكن في حزب الأمّة حين عاد السيّد الصادق المهديّ لمصالحة الحكومة؛ لم تكن في الحركة الإسلاميّة إبّان قرارات الرابع من رمضان و ما تلاها. لا زلت في برّ الأمان، و لتقرأ هذا النصّ من ذات الكتاب – الاقتصاد الهندسيّ:‏

Sunk cost is a past cost or past losses that cannot be altered by future action. Sometimes it is defined as a past expense that should not affect the present or future feasibility of a venture.
It is always logical to ignore sunk cost. For example, consider a person who made a sensible investment in gold but suffered a sharp and sudden prices drop. If there is no strong indication that the gold market will recover soon, it would be logical for him to acknowledge his losses by selling the gold he possesses and to make use of better opportunities elsewhere by using the remaining money more productively from now on, instead of obstinately holding on to his gold and refusing to acknowledge his past losses.

إلى أن تقرأ:‏

There is a natural reluctance to disregard sunk cost in practice. But the economic consequence of failing to treat sunk cost properly can mean the difference between a profitable venture and a financial loss.

ربما ضاعت عليك فرصة دراسةٍ هندسيّةٍ جيّدةٍ، لكنّني أعطيك منحةً مجّانيّةً للمشاركة في نشاطٍ هندسيٍّ نادر؛ فرصةٌ لم تتوفّر للكثيرين، و هي المشاركة في إعادة بناء و تخطيط أهمّ مؤسّسةٍ هندسيّةٍ في السودان: كلّيّة الهندسة بجامعة الخرطوم. ”من أعطاك الصلاحيّة لتقول ما قلت، و من يمنحني الصلاحيّة لأفعل ما تقول؟“ إجابتي هي: أعطيتها لنفسي و منحتها لك. المهندس المبدع يخلق الصلاحيّات التي يحتاجها و لا ينتظر أن يعطيهاه أحد؛ و لتقرأ إلى جانب هذه الورقة ورقةً نشرتها قبل عامٍ2 لتعرف كيف أفكّر. إن كنت قبلت بهذه المهمّة فأنت أعلم بما عليك فعله، و إن لم تقبل بها فلترقب بوعيٍ تامٍّو لتعلم أنّ آمالنا معلّقةٌ بمن قبل بها، لأنّ المهندسين – كما أسلفت – هم الفئة المسئولة عن تقدّم و حضارة و عمران و اقتصاد بلادهم. و إن لم يعجبك هذين الخيارين فلا أجد لك خياراً ثالثاً إلا الغيظ و الحسرة و الترس و الفشل.‏

This entry was posted in Arabic, السديم and tagged . Bookmark the permalink.

2 Responses to لا تكن أعمى

  1. A M Abdullah says:

    سبحان الله…. هذا ما أملك قوله بينما اتعجب وانا أقرأ هذه المقال كيف أنه يصف واقع كليتي المرير (رغم انها ليست كلية هندسة جامعة الخرطوم) وازددت عجبا عندما اكتشفت أن هذا المقال نشر قبل ما يقرب عن 17 عاما من تاريخ اليوم ويؤسفني ويؤلمني أن واقع الهندسة ودراستها في السودان
    لم يتغير قط قيد أنملة مما كان عليه قبل هذه ال17 عاما بل قد يكون ازداد سوءا اذ نحن لا نزال “نترس” و”نطبخ” حتى في أبحاث تخرجنا ولا يزال الطالب منا لا يدرك معنى وأهمية الهندسة حتى السنة الرابعة ويدرك كم هو ضائع والى اي مدى هو قد اصبح “a sunk cost”.
    انا الان في السنة الرابعة في كلية هندسة بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا تكاد تخنقني العبرة كل يوم أسفا وتعجبا كيف يعتبرها الناس الأولى في المجالات الهندسية في السودان وواقع طلبتها لا يخرج عن ما كتبت قيد أنملة ويشهد اليوم وضعنا الإقتصادي المنهار على مدى سوء التعليم والادارة ونتاج ال”responsive engineers” ومن عجائب الأمر أني اهتديت لهذا المقال وأنا ابحث عن نسخة “pdf” لكتاب بروف ابو الجوخ في الاقتصاد الهندسي
    وانا الان اكتب هذه الاسطر بعد 16 عاما و9 أشهر من بعدك لعلها ترشد من يأتي بعدي قارئا لهذا المقال مخبرا إياه اننا لا نزال كما كنا وأملا ان يكون سببا في التغيير لهذا الأمر كما سأسعى باذن الله أنا في ذلك ومذكرا إياه بأنه تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيرو ما بأنفسهم

    • A M Abdullah says:

      سبحان الله…. هذا ما أملك قوله بينما اتعجب وانا أقرأ هذه الله…. هذا ما أملك قوله بينما اتعجب وانا أقرأ هذه المقال كيف أنه يصف واقع كليتي المرير (رغم انها ليست كلية هندسة جامعة الخرطوم) وازددت عجبا عندما اكتشفت أن هذا المقال نشر قبل ما يقرب عن 17 عاما من تاريخ اليوم ويؤسفني ويؤلمني أن واقع الهندسة ودراستها في السودان
      لم يتغير قط قيد أنملة مما كان عليه قبل هذه ال17 عاما بل قد يكون ازداد سوءا اذ نحن لا نزال “نترس” و”نطبخ” حتى في أبحاث تخرجنا ولا يزال الطالب منا لا يدرك معنى وأهمية الهندسة حتى السنة الرابعة ويدرك كم هو ضائع والى اي مدى هو قد اصبح “a sunk cost”.
      انا الان في السنة الرابعة في كلية هندسة بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا تكاد تخنقني العبرة كل يوم أسفا وتعجبا كيف يعتبرها الناس الأولى في المجالات الهندسية في السودان وواقع طلبتها لا يخرج عن ما كتبت قيد أنملة ويشهد اليوم وضعنا الإقتصادي المنهار على مدى سوء التعليم والادارة ونتاج ال”responsive engineers” ومن عجائب الأمر أني اهتديت لهذا المقال وأنا ابحث عن نسخة “pdf” لكتاب بروف ابو الجوخ في الاقتصاد الهندسي
      وانا الان اكتب هذه الاسطر بعد 16 عاما و9 أشهر من بعدك لعلها ترشد من يأتي بعدي قارئا لهذا المقال مخبرا إياه اننا لا نزال كما كنا وأملا ان يكون سببا في التغيير لهذا الأمر كما سأسعى باذن الله أنا في ذلك ومذكرا إياه بأنه تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيرو ما بأنفس المقال كيف أنه يصف واقع كليتي المرير (رغم انها ليست كلية هندسة جامعة الخرطوم) وازددت عجبا عندما اكتشفت أن هذا المقال نشر قبل ما يقرب عن 17 عاما من تاريخ اليوم ويؤسفني ويؤلمني أن واقع الهندسة ودراستها في السودان
      لم يتغير قط قيد أنملة مما كان عليه قبل هذه ال17 عاما بل قد يكون ازداد سوءا اذ نحن لا نزال “نترس” و”نطبخ” حتى في أبحاث تخرجنا ولا يزال الطالب منا لا يدرك معنى وأهمية الهندسة حتى السنة الرابعة ويدرك كم هو ضائع والى اي مدى هو قد اصبح “a sunk cost”.
      انا الان في السنة الرابعة في كلية هندسة بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا تكاد تخنقني العبرة كل يوم أسفا وتعجبا كيف يعتبرها الناس الأولى في المجالات الهندسية في السودان وواقع طلبتها لا يخرج عن ما كتبت قيد أنملة ويشهد اليوم وضعنا الإقتصادي المنهار على مدى سوء التعليم والادارة ونتاج ال”responsive engineers” ومن عجائب الأمر أني اهتديت لهذا المقال وأنا ابحث عن نسخة “pdf” لكتاب بروف ابو الجوخ في الاقتصاد الهندسي
      وانا الان اكتب هذه الاسطر بعد 16 عاما و9 أشهر من بعدك لعلها ترشد من يأتي بعدي قارئا لهذا المقال مخبرا إياه اننا لا نزال كما كنا وأملا ان يكون سببا في التغيير لهذا الأمر كما سأسعى باذن الله أنا في ذلك ومذكرا إياه بأنه تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيرو ما بأنفسهم.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *