مفاهيم أساسيّة

إدارة المجتمع نقصد بها توجيه دوافع الأفراد و السيطرة عليها لتحقيق مصلحةٍ ما. كلمة دوافع هنا تشمل الدافع و الوازع و الرادع. المصلحة المعنيّة يمكن أن تكون ازدهار القطر أو عمرانه، التفوّق على الأقطار الأخرى (فرعون؟!).. أمّا المصلحة التي نرجوها فهي ما نسمّيه المصلحة العامّة، و هي «توفير الاحتياجات الأساسيّة لأكبر جزءٍ ممكنٍ من أفراد المجتمع في الحاضر و المستقبل18.» الاحتياجات الأساسيّة هي الأكل و الشرب (و الكساء و الدواء..) و الأمن و الاستقرار و الرضا و السعادة. هذه قائمةٌ مبدئيّةٌ يمكن أن نعدّل فيها لاحقاً، لكن لاحظ الآن أنّ الرضا و السعادة هما مربط الفرس، فلا أحد يأكل أكثر من سعة بطنه أو حاجة جسده، بينما قد لا يرضيه طعامٌ ما، و قد يسعده طعامٌ آخر. لاحظ أيضا أنّنا لم ندرج التعليم النظاميّ كحاجةٍ أساسيّةٍ، ذلك لأنّنا نعتبره وسيلةً و ليس بغايةٍ مقصودةٍ لنفسها، إذ قد نرى في وقت ما تحقّق المصلحة العامة بتعليم نسبةٍ من المجتمع نظاميّاً فضلاً عن تعليمه كلّه..

ألا تبدو هذه النظرة غريبةً بعض الشيء؟ هي كذلك، و لو استمررت بهذه الطريقة فسأفقد الاتّصال مع القارئ، لذلك أشرح سرّ هذه الغرابة. الفكرة ببساطةٍ في الزاوية التي ينظر منها الشخص، فالناظر بعين المصلحة العامّة يرى أشياء تختلف عمّا يراه الناظر بعينه الخاصّة. و كمثالٍ على ذلك خذ التفوّق: غايةٌ يقصدها كلّ طالبٍ و يتمنّى أن يكون الأوّل في دفعته. رغم أنّ هذه الرغبة إيجابيّةٌ في تحقيق المصالح الخاصّة إلاّ أنّها قد تبدو سلبيّةً إن نظرنا إليها بعين المصلحة العامّة؛ ذلك لأنّنا نرى حينئذٍ أنّ السعادة و الروح المعنويّة التي يجدها الأوّل تقابلها تعاسةٌ و إحباطٌ يجدهما ’الطيش‘.. وضحت الفكرة.

كيف نحقّق المصلحة العامّة؟ يرى الكثيرون أنّ المصلحة العامّة تتحقّق بتحقيق المصالح الخاصّة لكلّ الأفراد، لكنّني أعتقد أنّ هذا الفهم غير صحيح؛ بالمصطلح الهندسيّ: العلاقة ليست خطيّة. مثلاً يتطلّع كلّ شخصٍ لأن يكون غنيّاً، لكنّ تحقّق هذا يفسد المصلحة العامّة. هذا مجرّد مثالٍ من مئات الأمثلة. و مع هذا فالنموذج الذي نسعى إليه هو تحقيق المصلحة العامّة من خلال المصالح الخاصّة للأفراد، كما سنرى بعد قليل. يظلّ السؤال قائماً: كيف نحقّق المصلحة العامّة؟ ربّما يجيب شخص: ”بأن نجعل الناس حريصين على المصلحة العامّة يراعونها مع مصالحهم الخاصّة،“ و هذه إجابة على السؤال بسؤالٍ أصعب منه. الإجابة الأكثر قبولاً عندي هي: ”الحكومة هي المسئول عن تحقيق المصلحة العامّة،“ لكنّها إجابةٌ ناقصةٌ. الحكومة بكلّ مؤسّساتها التنفيذيّة و التشريعيّة هي في النهاية جهةٌ تنفيذيّة! إذ تقوم كلّ مؤسّسةٍ من مؤسّسات القطاع العامّ بتنفيذ مهامّ محدّدةٍ على أمل أنّ هذا يحقّق المصلحة العامّة: الهيئة القضائيّة تفصل في النزاعات و الخلافات، المجالس التشريعيّة تضع السياسات.. السؤال الهامّ جدّاً: من الذي يخطّط كلّ هذا؟ من يحدّد مسئوليّة و سلطة كلّ قطاعٍ و كلّ فردٍ و كلّ وظيفة؟

من وراء كلّ هذا توجد فئة من المتطوعين (في الغالب) اسمهم المفكّرون و الفلاسفة يخطّطون المجتمع بأيدٍ خفيّةٍ، و يخطّطون الوسائل لإنزال مخطّطاتهم هذه إلى الواقع؛ بعبارةٍ أخرى: يكتبون نظام التشغيل (‏Operating System‏) و طريقة إعداده (‏Setup Procedure‏). لن نتحدّث كثيراً عن هؤلاء المفكّرين، فإنّ كلامنا عنهم مجرّد ظنونٍ، لكنّنا نعلم أنّ وظيفتهم اختياريّةٌ يشارك فيها كلّ من آنس في نفسه الكفاءة. و نظنّ كذلك أنّه لكي نتعامل معهم أو نكون منهم لابدّ من أن نملك القدرة على النظر للأمور بعين المصلحة العامّة.

الآن نحاول أن نتقمّص شخصيّة مفكّرٍ و نتحدّث قليلاً عن شكل التخطيط الذي نريده قبل أن ننتقل إلى موضوعنا الأساسيّ و هو المؤسّسات التعليميّة. النموذج المطلوب يمكن أن نسميه التخطيط الإيجابيّ، و نلخصه في عبارة: «إدارة الرغبات لتحقيق المصلحة العامّة.» كلمة ’إدارة‘ تشمل هنا مجموعةً من عمليّات تحرير (‏Editing‏) الرغبات نذكر منها: تقليص و تخميد رغبةٍ ما، امتصاص (احتواء)، إشباع، غرس، تنشيط، توجيه.. و لنعطِ بعض الأمثلة المبنيّة على مثال التفوّق المذكور آنفاً:

  • يمكن للمؤسّسة التعليميّة أن تقلّص هذه الرغبة في الطلاّب.
  • يمكن امتصاص هذه الرغبة بإعطاء الامتياز للأوّل بطريقةٍ لا تؤثّر سلباً في الآخرين.
  • يمكن بدلاً من ذلك إشباع رغبة التفوّق بعد تعديلها قليلا لرغبة تميّز، و ذلك بإعطاء كلّ طالبٍ فرصةً لإظهار الميزات التي يتميّز بها على الآخرين بدلاً من حصر المنافسة في مجال واحدٍ أو بمعيارٍ واحد. بهذه الطريقة يمكن أن يكون لدينا أربعون كاسباً في مجالاتٍ متنوّعةٍ بدلاً من أن يكون لدينا كاسبٌ واحدٌ و تسعةٌ و ثلاثون خاسراً.
  • أخيراً يمكن توجيه رغبة التفوّق بجعل المنافسة بين الطلاّب في تنفيذ مشاريع حقيقيّةٍ أو حلّ مسائل واقعيّةٍ، بحيث يكون تفوّق طالبٍ واحدٍ مفيداً للمصلحة العامّة و يشفع لخسارة الآخرين.

و الآن أيّ هذه الطرق تفضّل؟ في الواقع نجد أنّ اختيار طريقةٍ ما لا يتمّ منفرداً بل يكون بالتنسيق مع كلّ جزئيّات التخطيط، فالرغبة المطلوبة في ظرفٍ ما قد لا تكون مرغوبةً في ظرفٍ آخر، فيصبح تخميدها عبئاً حينئذٍ، و العكس قد يحصل كذلك. على كلٍّ فالحديث عن ملامح التخطيط الجيّد موضوعٌ منفصلٌ بذاته. دعنا الآن ننتقل إلى الجزئيّة التي تلينا من هذا التخطيط..

المؤسّسات التعليميّة

هذه فكرةٌ أتوقّع أن يكون ابتدعها بعض هؤلاء المفكّرين و أقنعوا بها الناس حتّى صارت اليوم أمراً واقعاً كالأكل و الشرب، و هي إمرار كلّ أفراد المجتمع من خلال قناةٍ واحدةٍ حيث يسهل توجيه رغباتهم و أفكارهم و دوافعهم تجاه المصلحة العامّة. فالمؤسّسات التعليميّة إذن مرحلةٌ تمهيديّةٌ توجّه الأفراد ليجدوا المكان المناسب في نظام المجتمع، و وجود كلّ شخصٍ في مكانٍ يناسب نفسيّاته و إمكاناته مؤشّرٌ لنجاح هذه القناة، و وجود كلّ شخصٍ في مكانٍ غير مناسبٍ – كما هو حالنا – مؤشّرٌ لخللٍ في القناة التعليميّة.

خلال مرور الأفراد في القناة التعليميّة يتم تزويدهم بأكبر قدرٍ ممكنٍ من التربية و المعرفة اللازمة لتحقيق المصلحة العامّة. و الآن نصل إلى نتيجةٍ هامّةٍ جدّاً: «تزويد الطالب بالمعلومات في المؤسّسات التعليميّة العامّة ليس مقصوداً لذاته و إنّما القصد منه المساهمة في تحقيق المصلحة العامّة.» ”و ما الفرق في ذلك؟“ الفرق كبيرٌ جدّاً، فقد يوصي أحد المفكّرين بإعادة النظر في مؤسّسةٍ تعليميّةٍ مثل هذه الكليّة بسبب شيءٍ تراه تافهاً كـ’الترس‘؛ ذلك لأنّ الأمانة و الثقة و المسئوليّة و الاعتماديّة (‏Reliability‏) أولى عنده للمصلحة العامّة من كتلٍ جامدةٍ من المعلومات يمكن الحصول عليها في أيّ وقتٍ من أيّ كتاب.

الملخّص

  • بهذه الورقة نكون قد اقتربنا كثيراً من خانة البداية التي سننطلق منها إن شاء الله، فقد عرفنا أنّ تحقيق المصلحة العامّة هو الأساس الذي نبني عليه الأهداف العامّة للمؤسّسات العامّة.
  • وقفنا كذلك على أحد الأسباب الخلفيّة لكثيرٍ من مظاهر الخلل في بلدنا هذا، و هو أنّ كثيراً من مؤسّسات القطاع العامّ – بما فيها القناة التعليميّة – خطّطت و تعمل بأعين قاصرةٍ عن إدراك مفهوم المصلحة العامّة، أو ترى المصلحة العامّة ليست سوى جملةً من المصالح الفرديّة.
  • بالنسبة للسيّاسيّين و الإداريّين تجد كثيراً من أقوالهم و آرائهم و تصرّفاتهم مبنيّاً على رؤيةٍ خاصّةٍ أو موجّهاً تجاه ما يحقّق فخراً أو يثبّت موقفاً، مع الإهمال التامّ للنظرة المستقبليّة: أضاعوا وقت الأمّة خلف المظاهر.
  • النظر بعين المصلحة العامّة يعطي منظراً مختلفاً عمّا تراه عين الفرد. جديرٌ بالقول هنا أنّ كثيراً من الأفراد الخيّرين على المستوى الفرديّ قد يعيقون المصلحة العامّة بسبب حرصهم الزائد على العدل و الانضباط و دفع شبهة الرياء.. هذه التصرّفات الحسنة في الحياة الخاصّة قد تعيق العمل العامّ أحياناً.
  • المصلحة العامة عادةً لا تتحقق مباشرةً بتحقيق المصالح الخاصّة للأفراد.
  • المصلحة العامّة لا تعرف إلاّ المصالح. لا معنى لعبارةٍ مثل ”هذا فخر للسودان..“ في تحليلٍ فكريٍّ، بل يمكن أن نستبدلها مثلاً بـ ”هذا يرفع الروح المعنويّة للسودانيّين..“ أو ”هذا يكسب السودان ضغطاً إعلاميّاً خارجيّاً..“ و لا يجب إنفاق الأموال العامّة إلاّ مقابل قيمةٍ محسوسةٍ للمصلحة العامّة.
  • لن أطلب من الزملاء الآن‏ طلباً كبيراً مثل تقديم المصلحة العامّة على مصالحهم الخاصّة. ما أطلبه من الجميع هو النظر إلى القضايا العامّة و مناقشتها بعين المصلحة العامّة.
  • أخيراً: إن كان فكرنا لا يتّسع لإيجاد تخطيطٍ متكاملٍ لهذا البلد فإنّنا بالتأكيد نستطيع إن نمهّد لحركةٍ فكريّةٍ تقوم بهذه المهمّة. لا يكن أحدنا كما يقول المثل العاميّ: ”لا بطقّع لا بجيب الحجّار!“‏
This entry was posted in Arabic, السديم and tagged . Bookmark the permalink.

2 Responses to مفاهيم أساسيّة

  1. telal zulfo says:

    Ironically enough, most of Sudanese I met are around the same idea, but till now we can’t agree to it.
    I find myself close to the undestanding that we can not trust each other to do, because we don’t trust ourselves individually and collectivlly. That is why we usually listen to outsiders to give us local news. Also, we like to take short cuts even this breaks agreed rules.
    We should pass this to the next generation, the current ones are sadley hopeless,

    • abdalla says:

      I agree; we need a sort of macro-psychology applied to our society.
      As you mentioned, there is a clear lack of confidence in our characters, and it sometimes appear in a form of over-confidence to hide it.
      “Editing the desires” is my home-made expression for describing a psychological act.

      I do not agree with your word “hopeless”. No one is hopeless.
      Prophet Mohammed received his mandate at the age of 40; and he managed to educate people who were so hopeless as to bury his daughter alive.

      Still I agree that the hope in the younger generations is more, because some negative values were deeply rooted in our beliefs.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *