فقط لتطمئن

ماذا تعرف عن الجدري؟ ”الجدريّ مرضٌ جلديٌّ يسبّب أثراً دائماً قي الجلد و قد يؤدّي للوفاة..“ سيقاطعني القارئ قائلا: ”و لكنّ الجدريّ مرضٌ تنفّسيٌّ.“ إذن فظهور القروح في الجلد قد يكون عرضاً لمرضٍ باطنيّ. أعلم أنّ المثال ساذج، و إنّما قصدت به استحضار هذه المعلومة. سؤال طبيٌّ آخر: هل يمكن أن يُوْدي مرضٌ كالزكام بحياة شخص؟ و الإجابة المعروفة هي: نعم، إن كان مصاباً بمرضٍ اسمه أيدز. و كذلك نعلم خطورة مرضٍ كالسكّري، فهو يضعف الأعصاب و يجعل التعامل مع الجروح صعباً. سؤالٌ طبيٌّ أخير: ’رونالد روس‘ لابدّ أنّك تذكر هذا الاسم. ”نعم إنّه الرجل الذي ارتبط اسمه بالملاريا.“ هذا صحيح، و هل تذكر ما فعله هذا الرجل؟ إنّه لم يكتشف الكينين أو الكلوروكوين، بل ما فعله هو اكتشاف أنّ الملاريا يسبّبها ميكروب ينقله البعوض؛ هذا هو الضوء الأخضر الذي كان يحتاجه الناس..

لعلّك قد مللت هذه المداخل الطويلة، و سئمت هذا الكلام الأدبيّ، و شعرت بعدم الموضوعيّة في التناول، و بدأت تشكّ في وجود المشاكل التي أتحدّث عنها، و في أنّني أتوهّم. سأبدأ الآن في سرد بعض جوانب الخلل في النظام الأكاديميّ في هذه الكليّة:

(1) الأهداف: الأهداف العامّة لهذه المؤسّسة غير معروفة، و الأهداف الخاصّة لمن فيها لا تؤخذ في الاعتبار. ربّما رأى علماء الإدارة أنّ أهداف المؤسّسة يجب أن تكون واضحةً و محدّدةً، و أنّ الأهداف الخاصّة للأفراد يجب أن توجّه باتّجاه الهدف العامّ، و هذه مهمّة الإدارة. و أهداف الجزئيّات في هذه المؤسّسة غير واضحةٍ و غير مضبوطة؛ و أقول للمرّة الثانية: أتحدّى شخصاً يستطيع أن يقف أمامي ليريني الهدف من كلّ جزئيّة في تسلسل دراستي في السنوات الخمس.. و لعلّ السناير يذكرون أنّه حين سئل مدير الجامعة ”لماذا ندرس المطلوبات و لماذا تدخل في المعدّل؟“ قال: ”هارفارد بَرضو فيها مطلوبات“! يعني ’حاكو حاكو‘ كما يقول الأطفال. و السناير كذلك يذكرون بيان عميد الكلّيّة في ذات الشأن.

(2) الفلسفة: و ليست لدى الكلّيّة رسالةٌ واضحةٌ كذلك، فهي مثلاً لا تطلع الطالب على وثيقة لأخلاقيّات المهنة، بل إنّها تقرّ اللاأخلاق لدرجة جيّدة.

(3) المكان: ‏”كليّة الهندسة بجامعة الخرطوم ليست مواكبة،“ هذا هو ملخّص المشكلة في ظنّ الكثيرين، و يقصدون بمواكبةٍ أي للعالم الخارجيّ. هذه غلطةٌ إداريّةٌ لم يسلم منها أيّ شخص قابلته: كليّة الهندسة بجامعة الخرطوم يجب أن تكون مواكبةً للواقع في السودان لأنّها تريد أن تخرّج أشخاصاً يعملون في السودان، فلا معنى لأن ندرس أحدث التقنيّات ‏Latest technologies‏. هذه المؤسّسة ملكٌ لهذا البلد، وضعت لصالح هذا البلد، و لا ينبغي أن تخرّج الناس لكيلا يجدوا بعد ذلك عملاً هنا أو ليهربوا خارج البلد. هذه النقطة من أكبر خلافاتي مع الجميع، و سنعود لها ثانيةً إن شاء الله؛ لابدّ أن نعود لها.

(4) الخطط: هذه الكليّة ليست ملتزمةً بأيّة خطّةٍ واضحةٍ و مضبوطة، فهي لم تلتزم يوماً طيلة سنيني فيها بالتقويم الذي تعلنه، و يمكنها أن تلغي أيّة جزئيّةٍ في التسلسل الدراسيّ، و يمكن أن يتغيّر أستاذ المادّة في أيّة لحظة. يمكنك أن تسأل أيّ أستاذٍ جديدٍ هل أطلع على خطّةٍ ينفّذ بها مهامه أم ترك الأمر له ليفعله كيفما يرى. تعيش الكلّيّة في ديناميّةٍ تامّةٍ: ”شغل رقّيع و مباصرة“ بالمعنى العاميّ.

(5) السياسة: مؤسّسةٌ في وضع جامعة الخرطوم ينبغي أن تخطّط بطريقة تجلها تؤثّر في السياسة و لا تتأثر بها، لكنّ الحقيقة هي أنّ كليّتنا هذه مخترقةٌ بواسطة السياسات العليا لدرجةٍ ممتازةٍ. و لا أظنّه يختلف اثنان في أنّ التعريب و مطلوبات الجامعة كانت قراراتٍ سياسيّةً، فهي لم تصدر عن مجلس الكلّيّة، و لم يناد بضرورتها أساتذة الكلّيّة.

(6) الأسبقيّات: ليست لهذه المؤسّسة أسبقيّاتٌ محدّدةٌ و واضحةٌ و منطقيّةٌ، و الأمثلة كثيرة.

هذه هي عوامل التخطيط كما يدرسها طلاّب السنة الرابعة، و لنواصل في سرد المزيد من الخلل:

(7) الدوافع: دوافع المتعلّم الأساسيّة في هذه الكلّيّة هي التخرّج بشهادةٍ جيّدةٍٍ أو المنافسة على النتائج مع الزملاء! لم تحاول الكلّيّة خلق أو تنمية دوافع أخرى، فطبقا لمبدأ ”جِلداً ما جِلدك جر فيو الشوك“ فإنّ الكلّيّة لم تجرّ الشوك في جلدنا بل جرّتنا نحن في الشوك: فهي لا تكترث لأن تكون المحاضرات ممتعةً، و لا تأبه إن كان المعمل مُحبطاً بسبب سوء تحضيره.. و هكذا تجد الطالب حاضراً بجسده غائباً بعقله في المحاضرات و المعامل، و هكذا تجده ’يترّس‘ التقارير، لأنّه لا يجد دافعاً لفعل كلّ هذا إلاّ ’الجَبُر‘. و لو أبدى تزمّراً لقيل له: ”ما في حلاوة من غير نار“ أو: ”يغوص البحر من طلب اللآلي ××× و من طلب العلا سهر الليالي،“ و هذا كلّه افتراء. صدقني في العبارة التالية: «المعرفة شيءٌ جميلٌ و ممتع، و إن خالطتها الكآبة فهذه ظاهرة مَرَضيّة.» يمكنك أن تصبّر نفسك بمثل هذه الأقوال، أمّا القائمون على أمر الكلّيّة فلا: عليهم أن يجدوا المرض الذي يجعل التعليم محبطاً بهذه الطريقة.

(8) الاكتمال: إلى أيةّ درجةٍ يمكنك أن تستفيد من كتابٍ منزوعٍ منه الغلاف و التصدير و قائمة المحتويات، و قد نزعت كذلك صفحاتٌ متفرّقةٌ من وسطه (و هو فوق هذا سيّئ الطباعة و الإخراج!)؟ هذا هو حال هذه الكلّيّة: لا يكترث أحدٌ لأيّ مادّةٍ لم تدرسها أو معملٍ لم تدخله. و بالرجوع لمثال الكتاب تخيّل (هي في الحقيقة تذكّر) ذلك الكتاب الذي يرجع إلى الشكل المرسوم في إحدى الصفحات الناقصة؛ هذا هو مثَل المعمل الذي لا يعمل.

(9) تنسيق الجزئيّات: لا يسأل الأستاذ كيف دُرّس ’الكورس‘ السابق المبنيّ عليه كورسه هذا بل يدرّس مادّته و ينصرف.. بدلا من أن نفصّل في هذه النقطة‏ دعنا نرى النقطة التالية:

(10) الاستشعار Feedback‏: يهتمّ الأستاذ بأن يقول المعلومة للطالب و لكنّه لا يتأكّد من وصولها كاملةً أو كما أراد. و كذلك يجيب الطالب في الامتحان أو يكتب التقرير و لا يتمّ تنويره صراحةً أو ضمناً أين أخطأ ليتجنّب خطأه في المرّة القادمة. و في هذه النقطة كلامٌ أكثر من هذا.

(11) فساد التصوّر: الجميع هنا يوجّهون الطالب في اتّجاه الامتحان لا في اتّجاه المعرفة. نقول بوضوحٍ: «المطلوب أصلاً هو التعليم لا التقييم.» و المعدّل ليس إلاّ واحداً من الأشياء التي أسيء التعامل معها في هذه الكلّيّة.

(12) الاستقرار: استقرار النظام الأكاديميّ هنا سيّئٌ، فهو حسّاسٌ مثلاً للأستاذ الذي يدرّس مادةً ما. و لذلك تجد التباين كبيراً عندما تنتقل من دفعةٍ لأخرى.

(13) ضعف المعايير: المعدّل معيارٌ ضعيفٌ، فهو حسّاسٌ مثلا لطريقة وضع الامتحانات و طريقة التصحيح. و مع كلّ هذه الظروف الاستثنائيّة في هذه الكليّة لا يوجد ‏Exceptions Handlers‏ أو ‏Secondary Protocols‏ للتعامل مع أو في هذه الظروف. لذلك قد يحيد المعدّل كثيراً عنه في ظروفٍ طبيعيّة؛ و هكذا فإنّ ذات الشخص بنفس الأداء قد يتأرجح معدّله في مدىً واسع. و الطريف أنّ كثيراً من الطلاّب يرمي اللوم على نفسه بلا تفكيرٍ و يشحن العزم على أن يحرز المرتبة الأولى في الفصل القادم.

(14) ضبط الجودة: هذه من عيوب الكلّيّة التي تمتدّ خارجها لتخلق مشاكل يصعب تتبّعها و حلّها. ينبغي أن يكون هنالك مستوىً معيّنٌ لابدّ أن يجتازه الطالب لكي يمنح شهادة الكلّيّة. الكلّيّة الآن تعتمد في ضبط الجودة على المعدّل التراكميّ و مشروع التخرّج، و في الاثنين نظر؛ لكنّها لا تستطيع أن تطبّق نظاماً صارماً لضبط الجودة مع كلّ ما ذكر، لأنّها حينئذٍ قد تضطرّ لتعليق لافتةٍ مكتوبٍ عليها: ”مغلق للصيانة!“ و هكذا فقد نفذ مئاتٌ من المهندسين الفاشلين من ضبط الجودة، و لا نعلم أين هم الآن و لا ماذا ’يهبِّبون‘! من هنا نعلم كميّة المآسي التي سبّبتها هذه الجامعة الحبيبة لهذا البلد المسكين.

(15) ..

لقد سئمتَ من الوقوف أمام البورد، لكنّ مظاهر الخلل لم تنته بعد، لكن أرجو أن يكون ما سردته كافياً لاستعادة الثقة بيني و بينك في أنّ الأمر ليس مجرّد ’نقنقة‘. و إن كنتُ قلت للبرلوم في ورقةٍ سابقةٍ: ”إن أخبرك أحدٌ أنّني قد كذبت عليك في كلمةٍ مما قلت فليرشدْك إلى مكاني لتحاسبني على ذلك.“ فإنّني الآن أقول: إن أخبرك أحدٌ أنّني قد كذبت عليك في كلمةٍ مما قلت فليقابلني لأحاسبه على ذلك. و كما ترى فإنّني لا أتوقّع أن يكذبني أحدٌ فيما تقدّم، لكنّني أخشى أن يقول أحدهم: ”مالو برضو المشكلة شنو يعني؟!!“ حينئذ سأردّ قائلاً: ”و الله ياخ ما في مشكلة بس الظاهر الجو مسخّن شويّة!“

و الآن لو قرأت هذه الورقة على شخصٍ محايدٍ فقد يقول لك: ”الظاهر إنتو ما بتقروا في كلّيّة هندسة أصلاً،“ و قد تجيبه أنت: ”و الله ياخ دي الحقيقة صدِّق!“ لكنّني رغم كلّ هذا أرى أنّ كلّ هذا الخلل مشكلةٌ بسيطةٌ مقدورٌ عليها ما دام يمكن حصره و ضبطه بهذه الطريقة (’رونالدروس‘!): مجرّد زكامٍ، لكن عند شخصٍ مصابٍ بالأيدز. و أحذّر بشدّة من محاولة علاج هذا الخلل الآن: ما يزال الوقت مبكّراً! قل مثلاً أنّك حصلت على تفويضٍ شرعيٍّ من الشعب السودانيّ كلّه يعطيك كلّ الصلاحيّات لتعالج هذه الكلّيّة. ستقف حائراً أمام السؤال: ”أين تجد الفريق الذي تعتمد عليه في التخطيط و التنفيذ؟“ و لأنّ الإجابة على هذا السؤال لا تسرّ فإنّك قد تسبدله بسؤالٍ آخر: ”كيف تُوجد هذا الفريق؟“ و السؤالان يتبعهما سؤالٌ ثالثٌ: ”كيف تثق في هذا الفريق؟“ و هكذا فإنّك لن تخلص من الأسئلة. و كما ترى فلا امتياز يذكر للصلاحيّات التي يمنحها لك كلّ الشعب السودانيّ مجتمعاً على تلك منحتها لك في ورقةٍ سابقةٍ. أقترح الآن بدلاً من هذه الأسئلة أن تكون ملفات النقاش مفتوحةً للجميع في شأن كليّة الهندسة و في شأن كلّ القضايا العامّة، و أدعو الجميع، أساتذةً و طلاّباً، لهذه النقاشات التي يكون مكانها الندوات، لوحات الإعلانات، الصحف.. هذه كلّها أوساطٌ فكريّةٌ فعّالةٌ توجيهاتها بمثابة الأوامر، فقد يكتب شخص في ورقةٍ كهذه: ”نحتاج الآن لشخصين بالمواصفات الفلانيّة يرفعان مذكّرةً بالمحتويات الفلانيّة للجهة الفلانيّة..“ فإذا نفّذ شخصان بالمواصفات المعنيّة هذا التوجيه عرف هذا الشخص حجم الصلاحيّات التي يملكها، و إلاّ فهو لن يدخل السجن و لن يقدّم للمحاكمة. و تمتاز هذه الطريقة بأنّها لا توكل العبء كلّه لمجموعةٍ صغيرةٍ بل تعطي الجميع فرصة المساهمة في الحلّ، و لن أشرح الآن كيف تكون مساهمة الجميع.

إن كان عددٌ جيّدٌ من الناس قرأ هذه الورقة و الورقات السابقة في هذه السلسلة و أمّن عليها حتّى هذا السطر أكون قد أنجزت بنجاحٍ هذه المهمّة الاستكشافيّة. قد أختار بعد ذلك مهمّةً أخرى، و قد أختار أن آخذ قسطاً من الراحة، فالحمد لله. الآن أنتظر أن تظهر أقلامٌ أخرى تشارك في هذا النقاش، و أرجو أن أعرف رأي الزملاء قبل أن أخطو خطوة أخرى.

This entry was posted in Arabic, السديم and tagged . Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *