إزالة الحواجز

‏ ”دا بكورك مالو؟!،“ هكذا سأل أحدهم عندما مرّ بشخص يغرق، و حين ردّ عليه أحد الواقفين: ”ما بعرف يعوم.“ قال: ”و أنا ما ما بعرف أعوم بَكورك كده؟“! لم أرد ضرب مثلٍ بهذه القصّة و إنّما أردت بها تلطيف الكلام، و لا أظنّك تسأل هذا السؤال؛ إذن لكنت اكتفيت بقراءة العنوان و لم تتوغّل داخل النصّ؛ و لكنّك تسأل سؤالاً آخر: ”الحلّ شنو؟“. ألا تعتقد أنّه مازال الوقت مبكّراً لسؤالٍ كهذا – إلاّ إن كنت تقصد ”كيف العمل؟“؟ إن كنت مصرّاً على أن تعرف الحلّ الآن لتطبّقه في اليوم التالي فتعال لتودّعني مساء اليوم في مطار الخرطوم. هل جرّبت أن يحمل شخصٌ ورقةً كتبتها بيدك (لا تحمل توقيعك) ليشرح لك محتوياتها فيقول لك: ”لا هو ما المقصود هنا كذا و كذا قاصدين كذا..“؟! حدث هذا حين كنّا بصدد قضيّة المطلوبات، و لا أريده أن يتكرّر.

ألا ترى أنّ الناس غير متفاعلين مع كلّ ما نتحدّث عنه؟ لقد كنتُ من المنادين برفع مذكّرةٍ لنائب العميد بشأن أسبوع المهندس الأخير، و عندما كلّفت بصياغتها حرصت على صيغةٍ ترضي الجميع أتجنّب فيها أيّ سببٍ يمنع أحد الطلاّب من التوقيع عليها، لكن كان أوّل من رفض التوقيع هو أقرب أصدقائي! منقبةٌ له أن لم يجاملني، و ملامةٌ عليّ أنّ صديقي لا يشعر بأهميّة شيءٍ أؤمن بأهميّته. كثيراً ما سمعت البرالمة عند الخذلان يقولون: ”ناس الكلّيّة ديل رمم.“ سأحاول أن أشرح لك الآن لماذا لا يتجاوب الناس.

ربّما كان لكثيرٍ من طلاّب هذه الكلّيّة مجتمعٌ آخر خارج الجامعة، في الحلّة أو في الأهل، ينسيهم التفكير في مشاكل الجامعة. ربّما كان لبعضهم أيضاً مجتمعٌ خاصٌّ داخل الجامعة في شكل علاقةٍ عاطفيّةٍ تنسيه هذه المشاكل؛ و حتّى لو كان عنده مشاكله الخاصّة فهي أيضاً تنسيه المشاكل العامّة. هذا جانبٌ؛ و الجانب الآخر هو أنّ كثيراً من الناس لم يجرّب كثيراً من الأشياء لتخلق قيمةً عنده، فمن لم يعمل في أسبوع المهندس مثلاً قد لا يدرك قيمة النشاط. جانبٌ ثالثٌ هو أنّ بعض الناس ’حسّاسين‘ تحبطهم أشياء بسيطة فـ’يحردون‘ العمل العامّ جملةً. هذا هو الوضع الابتدائيّ، و ما يعقّد هذا الوضع هو المسكّنات التي يتعاطاها الناس لتناسي المشاكل: فالذي ’يترّس‘ أو ’يتبخ‘ لا يكاد يشعر بأنّ هنالك مشكلةٌ في المعامل، و الذي ’يتندس‘ له زملاؤه لا يعرف أنّ هنالك ’لكاشر‘ مملّةٌ، و الذي يحلم بالهجرة غرباً لا يكترث إن كان السودان يذهب للجحيم. و يمكنك أن تعدّد عشرات الأمثلة.

إذن فهذا هو الوضع العامّ. و عندما يعمل كلّ هذه المسكنّات معاً فإنّ كلّ هذه المشاكل قد تكون في مواجهة شخصٍ واحد. تعال و قف مكانه و لن يكفيك أن ’تكورك‘. يبدو أنّ ظروف الكاتب قد تشكّلت بطريقةٍ نتيجتها أنّه لا يتعاطى أيّ مسكنّات. لن أقصّ عليك قصّة حياتي لأريك كيف حدث هذا، لكن لكي لا تظنّ بي التظاهر بالنبل أخبرك أنّني لا أستطيع تعاطي المسكنّات أو تناسي المشاكل حتّى لو أردت ذلك. هذا كلّه لا يهمّك، و أعتذر لك عن الحديث عن نفسي. ما يهمّك هو أنّ المشاكل التي أتحدّث عنها موجودةٌ و بالحجم الذي أتحدّث عنه. و قد أعلم أنّ أحد القرّاء يتعاطف معي، لكنّ هذا لا يكفي. فإذا كان القارئ قد عدل عن سؤاله: ”الحل شنو؟“ إلى السؤال: ”كيف العمل؟“ فسأطلب منه طلباً صغيراً أن يجرّب لفترةٍ أن ينتهي عن تعاطي المسكنّات ليحسّ بحجم المشاكل التي أتحدّث عنها. و لا شكّ في أنّ الشعور بالمشاكل ظاهرة صحيّة مثل الشعور بالألم، فما أكثر مرضى السكّريّ الذين بترت أرجلهم لأنّهم لم يكونوا يحسّون بالألم. إذن فعندما لا يعمل أحد الأجهزة في المعمل فلا تتبخ القراءات بل اسأل: ”هل هذه مشكلتي وحدي أم مشكلة الجميع؟“، فإذا كانت مشكلة الجميع فلتدعُ الجميع ليحلّها الجميع، إذ أنّ المشاكل العامّة لا تنفع فيها الحلول الفرديّة إلاّ سعيد الحظّ و عديم الضمير؛ و لكن.. و لكن..

.. و لكنّ الجميع لن يتجاوبوا معك حتّى لو علموا قيمة ما تقول، و هذا هو الحاجز الأوّل. هل تعرف لعبةً اسمها ’سيجة‘؟ لكي لا يفوت المثال على أحد الزملاء أو الزميلات فإنّ الفكرة هي أنّك تأخذ (’تاكل‘) أحد حجارة (’كلاب‘) خصمك إن حصرته بين اثنين من كلابك. إن لعبت هذه اللعبة فلابدّ أنّك تذكر الوضع المرسوم في الشكل.

عندما تضع كلابك هكذا فإنّك لن تخسر أبداً، و لكنّك تفسد اللعبة: ’تعفّنهْا‘ كما يقول الأطفال الذين يلعبون السيجة. أعتذر عن كتابة كلمةٍ كهذه لا تناسب لياقة و احترام هذا المكان، و لكنّها تصف تماماً ما اختار أن يفعله سكّان و خريجوا هذا المكان: إنّهم يفسدون الحياة: كلّ واحدٍ منهم قفل نفسه هكذا لأنّه لا يريد أن يخسر. ربّما كنت لن تخسر، و لكنّك لن تربح كذلك. أما ترى أنّك مسجونٌ في مربّعين؟! قد تزيد عدد المربّعات إن كنت تملك المزيد من الكلاب، لكنّك مسجونٌ في كلّ الأحوال. ثمّ ماذا سيحدث إن خسرت؟ تبدأ من جديد، و تتعلّم المزيد، و قد يأتي يوم تكون فيه أنت الكاسب. كلّ الألعاب قد تصلح لضرب المثال للعبة الحياة: لن تدرك متعة اللعبة إن كنت لا تريد أن تخسر أبداً، و لن تتقدّم للأمام: «و من لم يتعلّم صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر!»‏

كنّا لا نحب أن نلعب مع من يلعب بهذه الطريقة، لأنّه لا يلعب معك إلاّ إن كان هو من سيكسب. و الآن صار الجميع يلعبون بهذه الطريقة: جرّب تقتنع. و التنظيمات أيضا تلعب بهذه الطريقة، لكنّها تملك كلاباً أكثر ممّا يملكه الأفراد، و لذلك فلديها مساحةٌ أكبر لتتحرّك فيها؛ و لكنّها منغلقةٌ على نفسها في النهاية. و الميل للّعب بهذه الطريقة سلوكٌ يتربّى عليه الشخص، و ربّما كان هو نفسه الذي يجعله فيما بعد يريد أن يحتفظ عنده بكلّ شيءٍ. و المتّصف بهذا السلوك قد لا يعتمد عليه ، لأنّه يمكن أن يتوقف بالناس و بعجلة الحياة عند أيّ وضعٍ يشعر فيه بالراحة. و لعلّ تجميد الموارد سلوكٌ سيّئٌ حاربه الدين و حاربه الفكر. و أنا أنادى الآن للمرّة الثانية و أدعو لمناقشة البعد الدينيّ لكثيرٍ من مشاكلنا، و أكاد أسمّي أشخاصاً بأعينهم ليفعلوا ذلك، لكنّني أنتظر منهم أن يبادروا بأنفسهم.

هكذا أفسد المتعلّمون حياة الجميع، كلٌّ بما لديه فَرِحٌ، فماذا نحن فاعلون. هل نسلّم للإحباط و ’الكتاس‘؟ هذه المرّة لا. خطّتنا القادمة، أنا و من تجاوب معي، هي استفزاز الناس ليخرجوا من شرانقهم هذه، فأرجو أن تكون معنا. طرق الاستفزاز متباينة: نقاشٌ، وعظٌ؟ لك أن تختار أيّة طريقةٍ تراها مناسبة لمن حولك. كلّ شخص له نقاط ضعفٍ و مداخل يمكن الدخول منها إليه لإخراجه من الشرنقة، و سنركّز على نقاط الضعف هذه. و من المهمّ لتنفيذ هذه المهمّة – أو أيّة مهمّة في المجتمع – أن تكون قريباً من الناس تفهم نفسيّاتهم و تعرف كيف يفكّرون، و أن يكون عندك ’مسّاكات‘ كما يقول أهل الكتشينة تستطيع بها أن تدخل للناس من أيّ بابٍ فتحوه. هذه النتيجة وصلت لها أنا و غير واحدٍ من الأصدقاء في نفس الوقت من طرقٍ مختلفة، فيمكنك أن تصل إليها بالتجارب، و يمكنك أن تأخذها منيّ على الثقة.

بقيت مساحةٌ صغيرةٌ في هذه الورقة استغلّها لألفت النظر إلى نوعٍ آخر من الحواجز التي تجب إزالتها، و هي الحواجز داخل عقل الشخص الواحد. تجد كثيرا من الأشخاص يملكون شخصيّاتٍ متباينةً و يسكنون في عقولهم جماعاتٍ من الأفكار المتناقضة، كلّ فكرةٍ تسكن غرفتها الخاصّة و تعيش في سلامٍ و وفاقٍ مع الأفكار الأخرى!! هذا لا ينفع، لأنّ هذا الشخص سيلبس في كلّ موقفٍ عباءةً تلائم ذاك الموقف. يمكنك الآن أن تفكّر في أوقات فراغك في كلّ القناعات التي في رأسك لتفكّ كلّ التناقضات فيه، يمكنك أيضا أن تستفزّ الآخرين لتهدم الحواجز داخل عقولهم، و سنتحدّث في وقت لاحقٍ إن شاء الله عن تنشيط العقل.

This entry was posted in Arabic, السديم and tagged . Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *