بسم الله

تقديم

ترجع نواة هذه الفكرة لمحاضرة عن فنّ الإدارة، تحدّث فيها المحاضر عن أنّ هنالك تسعة مداخل لعلم الإدارة، لكلّ منها أنصاره، ولكل منها إرثه العلمي. ثمّ ذكر، على سبيل المثال، المدرسة البيروقراطيّة، وعمادها الهيكلة الواضحة والضبط والربط؛ و المدرسة الإنسانيّة، وعمادها روح الفريق وبيئة العمل.. ثم أسهب في الحديث عن المدرسة الوظيفيّة لفهم الإدارة، والتي تتحدّث عن الوظائف الأساسيّة للإدارة، وكيف يمكن تحقيقها. لهذه المدرسة رصيدها العلميّ الخاص، وتستعير كذلك من الإرث العلميّ لبعض المدارس الأخرى في التعامل مع بعض وظائف الإدارة. فكرت حينها في المقابلة بين فهم الإدارة وفهم الدين، إذ أنّه يمكن القول أنّ الدين هو نظام لإدارة الحياة؛ وأنسابت الخاطرة..
نعم؛ فالمدخل الذين استخدموه معنا في المدارس كان فهما بيروقراطيّا للدين، يضع لوائح مفصّلة للأشياء: درسنا عن أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستّة، والحدود السبعة، والمبشّرين بالجنّة العشرة؛ درسنا عن الفرائض والسنن والفضائل والمكروهات والمبطلات، عن الشروط والكفّارات.. وبعد أن أكملنا دراستنا كنّا نظنّ أنّه لا ينقصنا في فهم الدين إلّا مزيد من التفصيل!
ثمّ سنحت لي لاحقا فرصة للتعرّف على الصوفيّة، وكانت فرصة قيّمة بحقّ، ليس لأن أصير صوفيّا، ولا لأكفر بالصوفيّة وأوطّن انتمائيّ لأهل السنّة والجماعة، بل لأعرف أنّ هنالك من يرى الدين من منظور مختلف، يسمح برؤية أشياء لا نراها نحن من المنظور البيروقراطي. حقّا أهملت المدرسة البيروقراطيّة (الفقهية) الجانب الروحيّ من الدين، الجانب الذي جعلته المدرسة الإنسانيّة (الصوفيّة) عمود ظهرها؛ وكذلك أهملت المدرسة الصوفيّة الجانب الإجرائي الذي ركّزت عليه المدرسة الفقهيّة.
وبينما اختار محاضرنا المدرسة الوظيفيّة لفهم الإدارة اخترت أنا المدرسة الوظيفية لفهم الدين، تلك التي لم أقرأ عنها، ولم أر من ينهجها..

الموضوع

في هذا المقال أقدّم للفهم الوظيفي للدين، مستهلّا بسم الله. و “بسم الله” المكتوبة في الأعلى هي عنوان هذا الموضوع، وليست عبارة لاستهلاله. نعم؛ هذه العبارة التي يستخدمها كلّ المسلمين، لجلب البركة وطرد الشياطين، ويستخدمونها (مع نبرة من الحماس والرجاء) لدعاء الله والتقويّ به حين الإقدام على عمل شاق، ويستخدمونها للنفاق وأسلمة الأشياء، ويستخدمونها في مواضع أخرى كثيرة؛ هذه العبارة نفسها تبطن بداخلها كلّ الفهم الوظيفي للدين، رغم أننا لا نستخدمها بهذه الروح.
لعلّه مرّ عليك مناسبات عديدة وقفت فيها مخاطبا الناس، أو على الأقل سمعت من يخاطب الناس، مستهلا خطابه “باسم أسرة المرحوم أعلن رفع الفراش..”، أو “باسم الزملاء في الصف الخامس أتقدّم بالشكر للأساتذة الأجلاء..”، أو مثل هذه العبارات. ماذا تعني “بسم”؟ نعم، تعني نيابة عن، تحمل معنى التفويض؛ وبسم الله كذلك تحمل معنى التوكيل الذي منحه الله للبشر (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..)، منحه لهم رغم استعجاب الملائكة (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، منحه لهم على علم (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). ومع التفويض الذي منحه مالك الكون للبشر، أعطاهم صلاحيّات وتسهيلات كبيرة في هذه الكون: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ..) وخصّهم بامتيازات (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدىً وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ). ومع هذا التوكيل تكليف، ففي هذا الآيات من سورة عبس تلخيص مختصر لدورة حياة الإنسان، الأولى منها والآخرة: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ)، والحياة كلّها تكون في هذا السبيل الميسر للإنسان والميّسر له الإنسان، مع كلّ الصلاحيات والمخصصات المذكورة؛ لكن (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ)، فما هو هذا الأمر الذي أمر الله به الإنسان؟ ما المطلوب من الناس في مقابل كلّ ما أعطوا؟
مع مستوى التفصيل فيها تتوقّع أن يكون هذا السؤال طرح لدى المدرسة البيروقراطية: “ما هي الغاية من خلق الإنسان” والإجابة المعروفة هي “عبادة الله”، استنادا للآية (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، والتي تذكر هكذا بدون مضمونها الذي يحمل إشارة إضراب في (مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ). لكن لا بأس، دعنا نتّفق على أن الغرض هو عبادة الله، ثم نسأل “ما معنى عبادة الله؟”. هنا نقف عند لبس كبير، إذ أنّ تسمية ‘العبادات’ في النظام الفقهي ربطت عبادة الله المطلوبة من الناس، ربطتها بالنسك: الصلاة والصيام والزكاة والحج، ثم فصّل الفقه في هذه النسك ليتمكّن الإنسان من عبادة الله؛ هل هذا فعلا ما أمره؟
هذا السؤال هو المدخل للفهم الوظيفي للدين، والذي لا يرى العبادة نسكاً محددا، بل يراها وظيفة؛ مسمّاها الوظيفي ‘عبد’. فالإنسان عبد لله، شاء ذلك أم أبى، والله هو ربّ العالمين، مالك الكون، وهو الذي استخلف فريقا من عبيده – البشر – لإدارة ما يقع تحت طائلتهم في هذه الأرض وما حولها. وكما في مفهوم الاستعباد الذي مارسه البشر على بعضهم لفترة من الزمان، فمن العبيد المطيع ومنهم الآبق، ومنهم الأمين ومنهم الخائن، ومنهم الشاكر لسيّده ومنهم الكاره له، ومنهم المخلص لسيّده ومنهم المتآمر عليه، ومنهم المفيد ومنهم الكلّ على مولاه..
من المنظور الوظيفي قد نتّفق على أن مهمّة العبد هي العمل على تحقيق مراد سيّده، والسعى لإرضاءه وتجنّب إغضابه، ولكن كيف يكون ذلك؟ كيف نهتدي لما ينبغي في وظيفتنا هذه؟ هذا أيضا جزء من تكليفنا، وربّما هو الذي يميّزنا عن كثير من المخلوقات، التي هي منساقة بسجيّتها لما يريده ربها، بينما الإنسان يعرف المطلوب منه بعقله. وقد ساعدنا الله كثيرا في هذا التكليف، زوّدنا بعقل يميّز، وأعطانا أمثلة كثيرة لما يحبّه وما يكرهه، ما يرضيه وما يغضبه، ما يقبله وما لا يسمح به، وغير ذلك مما فصّله في كتبه وأرسل به رسله، وكلّ ذلك على سبيل المثال لا الحصر، فلابد دائما من إعمال العقل؛ وإلا (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)

هذا تقديم يلخّص المدخل الوظيفي لفهم الدين، وسيتبعه إن شاء الله تفصيل وتطويل منّي ومن غيري ممن يتبنّى هذه المدرسة؛ فلنبدأ بسم الله، بأنّ نقول بسم الله في كلّ عمل نقدم عليه، وبأنّ نتأكّد عندما نقول “بسم الله” أنّ العمل هو فعلا ما يريده الله، لا ما يريده ربّ آخر، ولا ما تريده نفس خائنة أو دنيئة، تريد أن تستأثر لنفسها بشيء. لعلّ هذا فعلا ما يقرّبنا من الله، ويقرّبه منّا؛ حتى نكون من عباده المخلصين، الذين يقدّمون إرادة ربّهم على إرادة نفسهم، ويرجون الثواب منه بدلا من إثابة أنفسهم؛ حينها يكون الله حقّا سمعنا الذي نسمع به، وبصرنا الذي نبصر به، ويدنا التي نبطش بها، ورجلنا التي نسعى بها.. فإن عزّ علينا ذلك في قول “بسم الله”، فعلى الأقل دعنا نتأكّد حين نقولها أننا مقدمون على عمل يأذن به الله؛ اتّفقنا؟ فلنبدأ بسم الله.

This entry was posted in Arabic, مواضيع دينية. Bookmark the permalink.

One Response to بسم الله

  1. Mohammed says:

    Interesting

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *