الطناش وربويّة المشاكل

ربّما عدت إلى المنزل ذات يوم فوجدت إحدى المواسير قد انكسرت و عليك أن تصلحها أو أن تحضر سبّاكاً ليفعل ذلك. ربّما كنت مرهقاً فقرّرت أن تأخذ نومةً قبل أن تنظر في الأمر؛ و عندما تستيقظ فلن تكون الماسورة هي المشكلة الوحيدة، و إنّما هنالك أيضاً ترعةٌ من الماء و الطين. ربّما تقول أنّك لم تكسر الماسورة و أنّ إصلاحها ليس من اختصاصك، و هكذا تقرّر أن تتجاهل المشكلة، و لكنّ البعوض سيزورك في الليل ليذكّرك بأمر الماسورة. و هكذا فإنّ مشكلة ليست من صنعك و لا إصلاحها من اختصاصك قد تتسبّب في النهاية في أشياء تضايقك و يتعذّر عليك معالجتها. هكذا هي المشاكل تتعامل بالربا: كلّما أجّلت علاج مشكلة ما وجدت في اليوم التالي مشاكل إضافيّة.

هل هذا الكلام مشابه للواقع؟ ما عرضته في ما سبق يشبه حال من ’ملّح‘ مع أحدهم في الشارع ثمّ تعطّلت السيارة قبل أن يصل إلى وجهته. أعلم أنّ القارئ لن يترك صاحب السيارة حتّى يطمئنّ عليه و على سيّارته، و هذا التزامٌ أدبيٌّ، فإن كان مستعجلاً فله أن يعتذر بذلك. هذا ما قد توحيه الورقة السابقة للقارئ، لكنّ الالتزام هنا في الواقع ليس أدبيّاً و إنّما هو إلزامٌ جبريٌّ: «لا يمكنك التجاهل.» أنا أعلم أنّ تخطيط الكلّيّة ليس من اختصاصك، و لكنّه تسبّب لك في مشاكل يصعب عليك التعامل معها من لكاشر ’برّاية‘ إلى لابات ’مخستكة‘ إلخ. ثمّ كيف تقول أنّ هذه المشاكل ليست بمسئوليّتك و لست أنت من تسبّب فيها؟ لقد تركت العمل السياسيّ لأنّه قذر و لم تفكّر أبداً لمن تركته، فهل ستأتي يوماً لتسبّ الحكومة و تشتمها؟ أنت تحلف بدينك و أَيمانك أن لو دفعوا لك الملايين فلن تُدرِّس في هذه الكلّيّة ’السجمانة‘ و لن تضع فيها قدمك بعد أن تستلم شهادتك (!!!!)، و لكن لا يهمّك من سيدرّس فيها. أرجو ألاّ تنتظر أن يَدْرُسَ فيها ابنك بعد ثلاثين عاماً. أقول: «لا تعتمد على الأماني: ‏(‏..إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..).»‏

نظرةٌ أخلاقيّة‏

‏”لماذا تخاطبني أنا بالذات؟“ هكذا قد يسأل أحد القرّاء، و أنا أجيبه: ”لماذا لا أخاطبك أنت بالذات؟“! أما كنت تدّعى أنّك الأفضل؟ كيف وصلت إلى هنا؟ ألا تذكر كيف كان يمدحك أساتذتك حين كانوا يضربون زملاءك؟ هل قابلت أحد الذين درسوا معك في المراحل السابقة؟ ألم تلاحظ الاحترام الذي يوليه لك؟ لقد أقنعته بأنّك أفضل منه، وصلت إلى الجامعة على حسابه، و هو الآن يعلّق آماله عليك بأن تقود المجتمع. ما قولك في رجل عمل كحرس خاصّ لشخص بضع سنوات يتقاضى راتباً كبيراً، فلمّا تعرّض مخدّمه لمحاولة اغتيال قال الحارس في نفسه: ”إنّما هي روحٌ واحدةٌ“ و نجا بنفسه تاركاً الرجل يذهب للجحيم. ما يستحقّ هذا. إنّما أنت مثل هذا الشخص. ثمّ ماذا عن الترس؟ عن الـ ’تَبِخ‘؟ كيف تسمح لنفسك بأن تأخذ توقيعاً ’على بياض‘ من مشرف المعمل لتكتب فيما بعد القراءات التي تريدها؟ كيف تزوّر توقيعه إن لم يوقّع لك؟ كيف تدخل الامتحان بالكتاب؟ كيف تتعاون مع زملائك داخل قاعة الامتحانات؟ أولئك الذين تركتهم في المراحل السابقة و حظيت باحترامهم كانوا يفعلون كلّ ذلك خوفا من السوط؛ و ما أقساه؛ أمّا نحن فنفعله لنظلّ الأفضل: ما أن تخلّصنا من الآخرين و رفسناهم خلفنا و جئنا ههنا حتّى نظر بعضنا إلى بعض هل يراكم من أحدٍ ثمّ تولّى كلّ واحدٍ منّا يترّس و يزوّر. هذه هي الطريق التي توصلك من شخصٍ محترمٍ إلى شخصٍ فاسد. هل تسوؤك هذه الكلمة؟ إذن أكرّرها لك لتقرأها جيّدا: شخصٍ فاسد. و لو شعرتَ بأنّ المشاكل التي أتحدّث عنها أكبر من احتمالك فلا تفرح بأنّك أحرزت مرتبة الشرف الأولى: هذا كلّه حبرٌ على ورقٍ. لقد جرّبت أن أكون الأوّل في دفعتي، لكنّ هذا لم يشفع لي عند الفشل في المسائل الحقيقيّة. أخشى عليك من يومٍ تكتشف فيه أنّك كنت مستغَلاًّ أو واهماً كلّ هذه السنوات.

نظرةٌ دينيّة‏

ما تظنّ بكلّ ما تفعله في هذه الكلّيّة و ما يترتّب عليه؟ هل تعتقد أنّك مستقيم؟ هل ترى أنّك ترضي ربّك؟ إن كنت استوفيت الإيمان فماذا عن العمل الصالح؟ هل العمل الصالح هو العبادة؟ ماذا عن الفساد؟ كيف تتصوّر أن يكون الفساد؟ هل أنت ممّن يقولون: ‏(‏..رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)‏ أم ممّن يقولون ‏(‏..رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)؟ ماذا لو كنت حاضراً حين دعا أحد الأنبياء عليهم السلام للإسلام؟ هل كنت ستكون من المؤمنين أم من القائلين: ‏(‏..بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)؟ أكتفي بهذه الأسئلة، و أرجو أن يفتح الزملاء نقاشاً واسعاً عن البعد الدينيّ لكلّ مشاكلنا: ما بال العلمانيّين ينادون بإبعاد الدين عن الحياة و ما يعينهم عليه إلاّ الإسلاميّون!

نظرةٌ عقلانيّة‏

هل تدرك معنى أن تعيش في بلدٍ غير مخطّط؟ يعني ببساطة أنّه لا يمكنك الاعتماد إلاّ على حسن حظّك. ربّما انتظرتَ كثيرا اللحظة التي تستلم فيها شهادتك أمام جمعٍ من الناس و ترفعها بفخر على الملأ، لكن قد لا يحدث هذا.. لقد كنتُ شخصاً أكاديميّاً في أحد الأيّام، لكنّني وجدت نفسي فجأةً في معسكرٍ بالمرخيّات؛ و جدت أنّ دراسة الهندسة يتخلّلها بعض المواد الغريبة؛ و وجدت نفسي أدرس في جامعة الخرطوم بينما أستلم شهادتي من إدارة الخدمة الوطنيّة. هل تريد أن تقول لي: ”دي سياسة الكيزان الوسخين“؟ أنت واهم! ما رأيك أن نعيّنك الآن رئيساً للجمهوريّة (يبدو أن صلاحيّاتي أكبر مما تتصوّر!). هل تعتقد أنّك ستفعل الصواب؟ هل تعرف الصواب؟ أين تعلّمته؟ لا تتسرّع في الحكم على الأشياء. لو سألتَ أيّ شخصٍ عن سبب أيٍّ من المشاكل في السودان لأجابك بأنّها مشاكل اقتصاديّةٌ بسبب قلّة الإمكانيّات، أو كما يجيبون. أرجو ألاّ تكون كأيّ شخصٍ.

ربّما تقرّر بعد ذلك أن تحلّ هذه المشاكل بشكلٍ فرديّ فتجمع الكثير من المال لتعيش كما تريد. قد تنجح في جمع المال، لكنّه لا يضمن لك أن تعيش كما تريد: «المشاكل العامّة لا تنفع فيها الحلول الفرديّة إلاّ سعيد الحظّ و عديم الضمير.» قد تشتري أفخم سيّارة، لكنّك ستنتظر ساعة لتعبر كبري النيل الأزرق إن أردت: «بإمكانك أن تشتري السيّارة التي تريد، لكنّك لا تشتري الشارع.» و المرارة الحقيقيّة تكون عندما تدفع الكثير من المال مقابل حياةٍ بعيدةٍ عن أن تكون مُرضية. يمكنني أن أضرب لك العشرات من الأمثلة بهذا المعنى، لكنّك تفهم ما أريد قوله: «الشخص الواعي المتحضّر يقسم ماله و جهده و وقته بين نفسه و المجتمع الذي يعيش فيه،» ذلك لأنّ السعادة الكاملة لا تتحقّق بأن يكون كلّ شيء عندك بل بأن يكون في المكان الأنسب. إن كنت بعد ذلك تظنّ أنّك أنت المكان الأنسب فهذا نقاش طويل لن أدخل فيه الآن.

إذن فلابدّ من تخطيط جيّد للمجتمع قبل أن تفكّر في جمع المال أو الجاه أو العلم أو الشهادات. كم تعطي المجتمع و كم تعطي نفسك؟ ربّما كان عليك أن تعطي المجتمع كلّ شيءٍ في مثل ظروفنا هذه، لأنّنا الآن لا نسعى لوضعٍ أفضل بقدر ما نخاف من وضعٍ أسوأ. و بينما لا يستطيع كثير من الناس أن يعطي المجتمع إلاّ المال و الكلمة الطيّبة فإنّ وضعك و مؤهّلاتك العقليّة تجعلك قادراً على إدارة المجتمع و التحكّم فيه مباشرةً. و ربّ قائل: ”ما دام تخطيط المجتمع فرض كفايةٍ أترككم لتخطّطوه أنتم بينما أجمع لنفسي“. ماذا نسمّي هذا؟ هل تسمح لنفسك بأن تفعل ذلك؟ إذن فلتفعل؛ لكن بالله تأكّد أوّلاً أنّ هنالك من يخطّط المجتمع، إذ قد لا تجد قيمة لكلّ ما جمعت. و ما بال قومٍ يقولون: نذهب إلى أوروبا و أمريكا لنتعلّم ثمّ نعود لننفع بلدنا بما تعلّمناه؟! أقول لهم عبارة موجزة: لا تكذبوا. و الهجرة غرباً موضوعٌ كبيرٌ أرجو أن تتاح لنا فرصةٌ لمناقشته يوماً ما إن شاء الله.

ختاماً أقول للبرالمة: أنت في أفضل الأوضاع لتحلّ كثيراً من المشاكل: مجرّدٌ من المسئوليّة و تملك مجتمعاً يشبهك تستطيع أن تخاطبه. إن كان الاختيار الآن بين أن تحتفظ بمبادئك كاملةً و أن تحتفظ بشهادتك نظيفةً فإنّ طريق الابتزاز سيوصلك إلى مكانٍ سيء، فقد يكون الاختيار يوماً بين كلّ مبادئك و بين مصدر عيشك. و طريق المبادئ بالمقابل يصعب السير فيه لشخصٍ بمفرده. الأفضل من هذا و ذاك أن تشقّ طريقاً ثالثاً تمهّده لتسير فيه أنت و الآخرون. إن كنت ستفعل ذلك يوماً ما فالأفضل أن يكون ذلك الآن: ”ربّ يوم بكيتُ منه فلمّا صرتُ في غيره بكيتُ عليه!“ و لا يغرّنّك أنّ الكثيرين قبلك تجاهلوا المشاكل و وصلوا إلى أوضاعٍ تظنّ أنّها جيّدة؛ فقد كانت النتيجة ببساطةٍ أنّك تفكّر في أن تهرب من هذا البلد الذي لا يطاق العيش فيه!! ثمّ أقول: «سأبحث عن طريق ثالث؛ سأبحث عنه حتّى أجده إن شاء الله؛ لكن أرجو ألاّ يتفرّج الناس عليّ و كانّني أتحدّث عن مشاكلي الخاصّة. نحن في مركبٍ واحدٍ، و إن غرق فسنغرق جميعاً.»‏

This entry was posted in Arabic, السديم and tagged . Bookmark the permalink.

2 Responses to الطناش وربويّة المشاكل

  1. Abdalwhab Bakheet Mohamed says:

    الموضوع ده مهم و من الجميل انك اتناولتو و صحي ده واجبنا

  2. Ayman Abbas says:

    Nice

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *