الإحباط

يبدو أنّ قضيّة الإحباط في الوسط الجامعيّ عموماً و في هذه الكلّيّة خصوصاً هي الأسود و الأحوز على الاهتمام، تماماً كقضيّة الإرهاب في الوسط العالميّ. فبالإضافة إلى تردّد مفردات كإحباطٍ و ’دبرسة‘ (‏depression‏) و ’كتاس‘ (‏catastrophe‏) على ألسنة الطلاّب تجد أكثر من ورقةٍ أشارت صراحةً أو ضمناً إلى هذه القضيّة ضمن ما ينشر في هذه الكلّيّة، كما تجد مظاهر الإحباط كثيرةً لا تخفى على العين المجرّدة. و قد عزى المتحدّثون عنه الإحباط إلى أسبابٍ متباينةٍ، بينما اكتفى البعض بالإشارة إلى كيفيّة علاجه بغضّ النظر عن أسبابه. نريد أن نقدّم تفسيراً قد نراه معقولاً لكثيرٍ من أنواع الإصابة بالإحباط وسط الشباب، لكن قبل ذلك دعنا نتحدّث تجريديّاً عن الإحباط.

ما هو الإحباط؟ رغم أنّ الناس تشير إلى الإحباط كثيراً إلاّ أنّهم ليسوا مجمعين على تعريفٍ واضحٍ للكلمة، و لا على كيفيّة التعامل مع شخصٍ محبطٍ. و هكذا فقد صار الإحباط تهمةً خطيرةً كالإرهاب في زماننا المعاصر و الزندقة في العصر العباسيّ، و ما أن تشير أصابع الاتّهام إلى شخصٍ بأنّه محبطٌ حتّى يبدأ الناس في حمل كلّ أقواله و أفعاله على أنّها محاولةٌ منه لنفث إحباطه في الآخرين، إلى أن نصل إلى حالٍ يعجز فيها الناس عن الاستفادة من أيّة كلمةٍ يقولها هذا الشخص. لعلّ هذا بالذات ما حدث لكاتب هذه الورقة من قبل؛ لكن لا بأس من محاولةٍ أخرى.

«الإحباط عرضٌ يعرض للشخص يشلّ نشاطه و يقتل حماسه و يجعله غير قادرٍ على إنجاز أيّ عمل.» هذا هو تعريف الإحباط اصطلاحاً كما يظنّ الكاتب، و قد تركنا الهامش عريضاً لنقرأ عليه أيّة استدراكاتٍ يراها القرّاء. وفق هذا التعريف فالإحباط شيءٌ مختلفٌ عن الدبرسة، رغم أنّهما كثيراً ما يترافقان. أسباب الإحباط كثيرة، فقد ينتج عن تكرار الفشل، عن فقدان الأمل، عن فقدان الثقة في النفس أو في الآخرين، عن ضخامة المسئوليّة، …

يمكننا أن نقسّم الإحباط إلى نوعين عندما نتعامل معه: إحباطٍ مبرّرٍ و إحباطٍ غير مبرّر، و كما يمكنك أن تتوقع فإنّنا نقصد بالإحباط المبرّر ذلك الذي يتناسب مع حجم مسبّبه، و الإحباط غير المبرّر هو الإحباط المفرط لسببٍ لا يستحقّ. و الفرق هو أنّ الإحباط المبرّر يحتاج المصاب به إلى مساعدة الآخرين لكي يجتازه، فلا ينفع إذن توبيخه أو اتّهامه بأنّه محبط (!!!) أو استفزازه كما في حالة الإحباط غير المبرّر.

بعد هذا التقديم المختصر ننتقل إلى أسباب الإحباط في هذه الكلّيّة: «كلّ طالبٍ في هذه الكلّيّة عرضةٌ لإحباطٍ مبرّر؛» و الأسباب متنوّعةٌ نذكر منها:

  1. فقدان الثقة في المؤسّسة، في النظام التعليميّ، في الأساتذة، أو في النفس.
  2. المسئوليّة الزائدة.
  3. الركود و الشعور بالخمول و عدم الفائدة.
  4. الأزمات العاطفيّة.
  5. الأزمات الأكاديميّة.

و رغم أنّ هذه الأسباب قد تبدو متباينةً إلاّ أنّ وراءها أسباباً أكثر تقارباً هي سوء إدارة هذه المؤسّسة من تنظيمٍ و تخطيطٍ و تنسيقٍ؛ و لعلّ وراء هذه سبباً واحداً (و الله أعلم) هو غياب الفلسفة و الفكر و المنطق في هذا البلد (و البلدان المشابهة)، و سنشرح كلّ هذا لاحقاً إن شاء الله.

و الآن ما ظنّك بهذه الورقة و كاتبها؟ قد لا يخفى عليّ أنّ البعض يعتبرونني الراعي الأوّل للإحباط في هذه الكلّيّة، رغم أنّني لم أخلق أيّاً من المشاكل اللانهائيّة في هذه الكلّيّة و هذا البلد؛ كلّ ما فعلته هو أنّني أشرت إلى هذه المشاكل و حضضت الناس على حلّها؛ و أنا لا أرى الإشارة إلى المشاكل بهدف معالجتها عملاً إحباطيّاً. لديّ الكثير لأقوله في هذا المعرض، لكن لا داعي لذلك. أكتفي بأنّ أقول للقرّاء عموماً و للبرالمة خصوصاً: يمكنك أن تحذو حذو الآخرين فتقول عن كلّ ما ينشر: ”هذا شخصٌ محبطٌ،“ أو نحواً من ذلك، لكن تذكّر أنّ هذا لن يفيدك، فالتغاضي عن المشاكل لن يحلّها أبداً. و رغم أنّ الأمر قد لا يهمّك كثيرا إلاّ أنّه يمكنك أن تعلم أنّ كاتب هذه الورقة ليس ميّالاً لفعل ما لا فائدة منه. فلو كنت أعلم أنّ هذا الوضع لا أفضل منه يمكن الوصول إليه لما أرهقت نفسي بكلّ هذا الكلام. أم أنّك راضٍ عما نحن عليه تقول: ”قد يكون الغيب حلواً إنّما الحاضر أحلى“!؟ و أخشى أن أكون مصيباً لو قلت: لو تعلمون ما أعلم لما وسعكم الندم على ما أضعتم من سنوات في هذه الأوضاع.

كيف تفكّر؟

الآن سأحاول أن أشرح للقارئ ما يدفعني لقول ما قلت و ما سأقول إن شاء الله: أن أريَه الأمور من الزاوية التي أراها. و حتّى لو كنتَ من المصرّين على أنّ كلّ هذا لا فائدة منه فقد تجد فائدةً في هذه الأوراق، فائدةَ أن تعرف كيف يفكّر أحد الناس؛ من باب التسلية على الأقل. أوّل ما أرويه لك هو أنّه في محاضرةٍ عامّةٍ قدّمها د. محمّد عبد المنعم عميد كليّة العلوم الرياضيّة ذكر أنّ علماء الرياضيّات قضوا حقبةً طويلةً من الزمن يراجعون مسلّماتهم، و قد كان شعارهم ما قاله هيلبرت: «‏We must know; We shall know.‎‏» و الطريف أنّهم وصلوا في النهاية إلى وجود تناقضٍ في مسلّماتهم، فقال أحدهم – و لا أذكر إن كان القائل هو د. محمّد عبد المنعم نفسه: ”رغم أنّ علماء الرياضيّات لم يستطيعوا أن يثبتوا متانة الأسس التي تقوم عليها الرياضيّات إلاّ أنّهم استطاعوا أن يصلوا إلى الحقيقة؛“ أو كما قال. فإن كنت لا تظنّ أنّ الجامعة في وضعها الحاليّ سيّئةٌ فلتسأل (و الخطاب هنا للأساتذة و الطلاّب و الجميع): هل هي جيّدة؟ هل هذا هو أفضل ما يمكن الحصول عليه؟ و ليكن شعارك: «لن نرضى إلاّ بالأفضل.» أمّا إن كنت مثلي تظنّ أنّها سيّئةٌ و مليئةٌ بالمشاكل فليكن شعارك: «علينا أن نجد حلاًّ؛ و سنجده.» و في ما سيلي إن شاء الله سأحاول أن أريَ القارئ سوء وضع الجامعة كما أراه و إمكانيّة وجود بدائل أفضل، كما سأحاول أن أشرح له فائدة و ضرورة الاهتمام بتحقيق هذه البدائل و بالقضايا العامّة عموماً.‏

This entry was posted in Arabic, السديم and tagged . Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *