تقديم
مررت قبل أيّام على ورقة في إحدى اللوحات تتحدث عن حرمة الغناء و استهانة الناس بها، فكان أن رَجَعَت بي هذه الورقة عقداً من الزمان، إلى حينما سمعنا أول مرّة عن حرمة الغناء من أستاذنا في المرحلة الثانوية. أثار ذاك الحديث نقاشاً واسعاً بين الزملاء فبدأنا نبحث و نقرأ و نناقش، و بحقّ فقد استفدت كثيرا من النقاش في هذه المسألة، في فهم بعض مصطلح الحديث، و في الوقوف على بعض الأحاديث.. على كلّ فقد نالت هذه المسألة نصيباً مقدراً من البحث و النقاش بين زملائنا طوال عشر سنوات، فمن الحقّ إذن أن أنقل إلى الزملاء ما خلصنا إليه..
المضمون
مجمل ما أقول في مسألة الغناء هذه هو: كيف يكون لامرئ أن يقطع بحرمة شيء أقرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعله أمامه غيرما مرة؟ فيما يلي أعرض بعض الأحاديث لتستخلص منها أخي القارئ ما تستخلصه، ثم أناقش بعض ما استند إليه من قال بالتحريم، ثم أكتب خلاصة ما خرجت به في هذه المسألة.
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ ذَكْوَانَ قَالَ قَالَتْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ جَاءَ النَّبِى صلّى الله عليه وسلّم فَدَخَلَ حِينَ بُنِي عَلَى فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِى كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِى يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ وَفِينَا نَبِى يَعْلَمُ مَا فِى غَدٍ فَقَالَ دَعِى هَذِهِ وَقُولِى بِالَّذِى كُنْتِ تَقُولِينَ (البخاري)
و في الحديث ما فيه في قولها ”فجلس على فراشي كمجلسك مني،“ لكنّ هذه مسألة أخرى؛ المهمّ أنه وقع الغناء في صبيحة زواجها، و حضره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، و وعى كلماته فاستدرك عليها.
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَفَّتْ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِيّ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَا عَائِشَةُ مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ (البخاري)
”يعجبهم اللهو“ هي بلغتنا: ”يحبون الطرب“! أم ماذا ترى؟ و للحديث روايات أخرى فيها ما فيها من الفوائد، مثل أنّ غناءهم قريب من بعض أغنيات ’السَيرة‘ في أعراسنا، فأنصح بالرجوع إليه في فتح الباري؛ أما هنا فأكتفي بما قلّ و دلّ: لو كان الغناء مجرّد رخصة تجوز مع الكراهة في مواضع خاصة، هل كان صلّى الله عليه وسلّم يستدرك على عائشة رضي الله عنها إذ لم تأخذ برخصتها! تعجّب من كلامي كما شئت، و لكن توخَّ الإنصاف.
عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَالنَّبِى صلّى الله عليه وسلّم عِنْدَهَا يَوْمَ فِطْرٍ – أَوْ أَضْحًى – وَعِنْدَهَا قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَتْ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ – مَرَّتَيْنِ – فَقَالَ النَّبِى صلّى الله عليه وسلّم دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَإِنَّ عِيدَنَا هَذَا الْيَوْمُ (البخاري)
سنعود لهذا الحديث في الفصل التالي؛ فقط أعلّق هنا أن إمامنا في الحي قد قال قبل هذا في خطبة العيد ما مفاده أن من عصى الله صلّى الله عليه وسلّم يوم العيد فكأنمّا عصاه يوم الوعيد، ثم نصح الناس باجتناب المحرمات أيام العيد كالغناء و نحوه! أقول: لو كان الغناء حراما فالثابت جوازه أيّام العيد وفق هذا الحديث.
(عن عائشة) وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ فَإِمَّا سَأَلْتُ النَّبِى صلّى الله عليه وسلّم وَإِمَّا قَالَ تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ فَقُلْتُ نَعَمْ فَأَقَامَنِى وَرَاءَهُ خَدِّى عَلَى خَدِّهِ وَهُوَ يَقُولُ دُونَكُمْ يَا بَنِى أَرْفِدَةَ حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ حَسْبُكِ؟ قُلْتُ نَعَمْ، قَالَ فَاذْهَبِى (البخاري)
”دونكم يا بني أرفدة“ يعني ’واصلوا‘ كما شرحوها، و سبب هذا القول يظهر في إحدى روايات الحديث أن عمر رضي الله عنه لما رآهم ’يزفنون‘، أي يرقصون في المسجد همّ أن يحصبهم بالحجارة، فأمنّهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ أن هذا طبعهم، و طبعنا كذلك، فبنوا أرفدة هم الحبش، و في الرواية أعلاه ”السودان“! أما في رواية للترمذي:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم جَالِسًا فَسَمِعْنَا لَغَطًا وَصَوْتَ صِبْيَانٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَإِذَا حَبَشِيَّةٌ تَزْفِنُ وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهَا فَقَالَ يَا عَائِشَةُ تَعَالَيْ فَانْظُرِي فَجِئْتُ فَوَضَعْتُ لَحْيَيَّ عَلَى مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ إِلَى رَأْسِهِ فَقَالَ لِي أَمَا شَبِعْتِ أَمَا شَبِعْتِ قَالَتْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لاَ لِأَنْظُرَ مَنْزِلَتِي عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ عُمَرُ قَالَتْ فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم إِنِّي لأَنْظُرُ إِلَى شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ قَدْ فَرُّوا مِنْ عُمَرَ قَالَتْ فَرَجَعْتُ (الترمذي)
هكذا في الترمذي، و قد أوردته كاملا و أنا أعلم ما سيقول قائل عن شياطين الأنس و الجن، لكنّه ليس مهمّا، و لا مهمٌّ ما فهمته أنا، المهمّ ما تفهمه أنت أخي القارئ الكريم؛ أما ’تزفن‘ فمعناها ’ترقص‘!
نظرة ثانية
إذن فمن أين استخلص كثير من الناس حرمة الغناء؟ نريد أن نمر على بعض ما استندوا إليه، و ننصح كذلك بقراءة كلام الأمام ابن حزم في المحلى عن هذه المسألة.
الآيات
احتجوا على حرمة الغناء بثلاث آيات. قبل كلّ شيء ألفت نظر الجميع إلى أنّ هذه الآيات الثلاث مكية، فهل حُرّم الغناء قبل تحريم الخمر؟ كيف؟! و لأنيّ أعلم أنّ هنالك من سيقول: ”هذا لأنّ الغناء أضرّ على المجتمع من الخمر، فالخمر تؤذي فرداً، و هذا يؤذي مجتمعاً ..“ لذلك سأناقش دلالة هذه الآيات بتفصيل:
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) (الإسراء 64)
’بصوتك‘ قيل هو الغناء. نعم الغناء مدخل للشيطان، مثله في هذه الآية مثل الأموال و الأولاد و السلطان و الأماني! هل هذه حرام؟ هي كمثل قوله عزّ وجلّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (الأنفال 28).
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (لقمان 6-7)
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّه أقسم أنّه الغناء. هل الوعيد بالعذاب لأنهم اشتروا لهو الحديث، غناءً أو غيره، أم لأنهم يضلون عن سبيل الله و يتخذونها هزواً؟ قارن مثلاً بقوله عزّ وجلّ (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (المجادلة 16) أمّا معنى كلام ابن مسعود رضي الله عنه فقد يتبيّن لك بتجميع الروايات في تفسير هذه الآية: نعم نزلت هذه الآية في من أراد أن يصدّ عن سبيل الله بالدعوة لسماع القيان، و الله أعلم؛ هذا ما وقفت أنا عليه، و الأفضل عندي أن تقرأ هذا بنفسك لأجل الفائدة الأكبر، و لتطلعنا جميعاً على ما وقفت عليه.
(أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (النجم 59-62)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ ’سامدون‘ هي في الحميرية ’تغنّون‘. و الآن ضعها محلها: هل يفيد هذا أبداً حرمة الغناء؟ لكان الضحك محرّماً كذلك! و الواضح لي في هذه الآيات نقد حالهم حال قراءة القرآن: لاهية قلوبهم: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (فصلت 26)
هذا كل ما هنالك! و الله عزّ وجلّ أمر بتدبّر آيات كتابه في غيرما موضع، و أنت ترى كيف يستخلص الناس أحكامهم من الآيات. نسأل الله التوفيق و السداد.
الأحاديث
باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلاَبِى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الْأَشْعَرِى قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْعَرِى وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِى سَمِعَ النَّبِى صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِى أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ يَأْتِيهِمْ – يَعْنِى الْفَقِيرَ – لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ ارْجِعْ إِلَيْنَا غَداً فَيُبَيِّتُهُمْ اللَّهُ وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ (البخاري)
أنصح كثيرا بالرجوع إلى شرح هذا الحديث في فتح الباري؛ ستجد فيه فوائد كثيرة. أما فيما يلينا ههنا أقول بأنّ استخراج حكم من الحديث قد يحتاج إلى قراءته من وجوه (مساقط\جوانب) عديدة حتى يتسنى ضبطه، لأن عين ألفاظ الحديث لا يمكن الجزم بها؛ مثلا في الحديث المذكور من هو القائل ”يعني الفقير“ من رجال الإسناد. و قد وقع عين هذا الحديث عند إبي داود دون ذكر المعازف، و ذكر ’الخزّ‘ مكان ’الحِرَ‘! و في رواية ضعيفة الإسناد (ليشربنّ أناس من أمتى الخمر يسمونها بغير اسمها تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف)، و لكنّ هذه الرواية الأضعف إسناداً هي التي بنى عليها البخاري ترجمة الباب كما ترى.
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ قَالَتْ وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا (البخاري)
ما أبغض العصبية! لكي يثبت الناس قولهم بتحريم الغناء تجشّموا قول ما لا يليق: ”أقرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر و لم ينكر عليه تسمية ’مزمور الشيطان‘“! يا قوم، أيعقل أن يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”آآي هو مزمور الشيطان لكن خليهم الدنيا عيد“؟! الثابت في حق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنّه لا يجامل أحدا في معصية الله، فالثابت بذلك أن فعل الجاريتين لم يكن حراماً و لا إثماً. و قد تعلّلوا بلفظ ’جاريتان‘ و ’ليستا بمغنيّتين‘.. كما أسلفنا فإنّ عين ألفاظ الحديث لا يمكن الجزم بها، فقد نقلناه أعلاه من موضع آخر في الصحيح برواية فيها ’قينتان‘.
إذن فلماذا أنكر أبوبكر رضي الله عنه على عائشة رضي الله عنها؟ قد نفهم هذا إذا تخيّلنا المنظر، و ترجمنا العبارات بالعامية. تخيّل أنّك دخلت أنت فوجدت ابنتك و معها فتاتان تغنيّان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.. لكنت قلت: ”يا بت الكلب، بِتغنّوا في بيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم“! أما قوله ’مزامير الشيطان‘ فإنّ الصدّيق رضي الله عنه ترك سبعين باباً من الحلال مخافة الوقوع في الشبهات؛ فما يدريك لعلّ الغناء منها؟ هو يعلم (وبعضنا يعلم) أنّ الغناء مدخل للشيطان يلهي به القلوب.. سنكمل هذا بعد قليل؛ على أنّه يبدو أنّ استخدامهم لكلمة الشيطان فيه بعض المجاز أحيانا، و الله تعالى أعلم؛ و إلاّ فمن إذن شياطين الأنس في حديث الترمذي المتقدّم؟ و أنظر مثلا إلى هذا الحديث:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ اللَّهُ سَالِمًا أَنْ أَضْرِبَ بَيْنَ يَدَيْكَ بِالدُّفِّ وَأَتَغَنَّى فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم إِنْ كُنْتِ نَذَرْتِ فَاضْرِبِي وَإِلاَّ فَلاَ فَجَعَلَتْ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلْقَتْ الدُّفَّ تَحْتَ اسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ إِنِّي كُنْتُ جَالِسًا وَهِيَ تَضْرِبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وَهِيَ تَضْرِبُ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرِبُ فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَرُ أَلْقَتْ الدُّفَّ (الترمذي)
و المعلوم أنّ النذر بحرام لا يؤدَّى، أمّا منعه صلّى الله عليه وسلّم لها إن لم تكن نذرت فمفهوم لو تخيلت المنظر، و تخيّلت فيه شخصا كبير المقام؛ دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. و أمّا ذكر الشيطان فلعل معنى ”إنّ الشيطان“ هو ’حتى الشيطان‘، و الله تعالى أعلم، و قد قصدت إثباته هنا ليفهم كلّ شخص ما يفهم، لكن استحضر في فهمك أيضا هذا الحديث:
اسْتَأْذَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم فَدَخَلَ وَالنَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَضْحَكُ فَقَالَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَقَالَ عَجِبْتُ مِنْ هَؤُلاَءِ اللاَّتِي كُنَّ عِنْدِي لَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ فَقَالَ أَنْتَ أَحَقُّ أَنْ يَهَبْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِنَّ فَقَالَ يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَمْ تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقُلْنَ إِنَّكَ أَفَظُّ وَأَغْلَظُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلاَّ سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ (البخاري)
و انظر كذلك لقول عمر رضي الله عنه لأزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”يا عدوّات أنفسهنّ“ لعلّك تفهم منه قول أبي بكر رضي الله عنه. بقيّة الأحاديث التي أذكرها مما احتجّوا به في تحريم الغناء في صحتها نظر، و لن أتطرق لها ههنا، بل أكتفي بإرشاد الباحث لأن يقرأ كلام الإمام الحافظ ابن حزم الأندلسي في ذلك (المحلّى بالآثار: كتاب البيوع، مسألة بيع آلات اللهو).
أقوال الفقهاء
و من أقوال الفقهاء أختار قول مالك و الشافعيّ، على ما اعتاد عليه القائلون بالتحريم. أمّا مالك فلم أقف على قول له إلا فيما ينشره من يقولون بتحريم الغناء أنّ مالكاً سئل عن الغناء فقال: ”إنمّا يفعله عندنا الفساق!“ يالِحرص مالك و احتياطه؛ و يالِذكائه في نهو الناس و تنفيرهم مما ينكره و يحذّر منه، دون أن يتجشّم القول بتحريم شيئ برأيه؛ و قد وقفت على قول له: ”لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا، ولم أكن لأصنع هذا“ (القرطبي: النحل 116). أمّا اليوم فإنّهم يصنعون ذلك، و يقولون: ”الكراهة عند مالك تعني التحريم“: يكلفون الإمام ما احترز منه!
كم مرّة سمعتهم يطلقون إجماع السلف في تحريم الغناء؟ إليك لفظ الشافعيّ، الذي كان يكره الغناء لقدحه في اللياقة و المروءة: ”(قَالَ الشَّافِعِيُّ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِي الرَّجُلِ يُغَنِّي فَيَتَّخِذُ الْغِنَاءَ صِنَاعَتَهُ يُؤْتَى عَلَيْهِ وَيَأْتِي لَهُ، وَيَكُونُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ مَشْهُورًا بِهِ مَعْرُوفًا، وَالْمَرْأَةُ، لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ اللَّهْوِ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يُشْبِهُ الْبَاطِلَ، وَأَنَّ مَنْ صَنَعَ هَذَا كَانَ مَنْسُوبًا إلَى السَّفَهِ وَسُقَاطَة الْمُرُوءَةِ، وَمَنْ رَضِيَ بِهَذَا لِنَفْسِهِ كَانَ مُسْتَخِفًّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا بَيِّنَ التَّحْرِيمِ، وَلَوْ كَانَ لاَ يَنْسُبُ نَفْسَهُ إلَيْهِ، وَكَانَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِأَنَّهُ يَطْرَبُ فِي الْحَالِ فَيَتَرَنَّمُ فِيهَا، وَلَا يَأْتِي لِذَلِكَ، وَلَا يُؤْتَى عَلَيْهِ، وَلَا يَرْضَى بِهِ لَمْ يُسْقِطْ هَذَا شَهَادَتَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ…“ إلى أن قال: ” وَهَكَذَا الرَّجُلُ يَغْشَى بُيُوتَ الْغِنَاءِ ، وَيَغْشَاهُ الْمُغَنُّونَ إنْ كَانَ لِذَلِكَ مُدْمِنًا ، وَكَانَ لِذَلِكَ مُسْتَعْلِنًا عَلَيْهِ مَشْهُودًا عَلَيْهِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ سَفَهٍ تُرَدُّ بِهَا شَهَادَتُهُ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقِلُّ مِنْهُ لَمْ تُرَدَّ بِهِ شَهَادَتُهُ لِمَا وَصَفْت مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَرَامٍ بَيِّنٍ.“ (كتاب الأم: كتاب الأقضية: ما تجوز به شهادة أهل الأهواء.)
خلاصة
ختاما أنقل إليك أخي القارئ خلاصة ما خرجت به أنا بعد النقاش الطويل في مسألة الغناء هذه؛ على أنّ المهمّ ما تخرج به أنت بنفسك.
أوّلا: خير ما نصف الغناء بوضعه مع ما يشابهه: الغناء ينتمي لمجموعة فيها الشعر و المزاح و اللعب و يلحق بها مشاهدة التلفاز و الاستماع إلى الراديو و نحوها من خيارات الترفيه: مناشط يتناولها الناس في الحياة الدنيا، فيها المنفعة و فيها الضرر؛ فينبغي إذن تناولها بحذر. أمّا المنفعة فأقلّها ما فيها من المتعة، و أمّا الضرر فأقلّه ما تُرِك لأجلها؛ هذا بمفهوم اقتصاديّ تفهمه أخي القارئ المهندس، و هو مفهوم الفرصة الضائعة.
ثانيا: يكمن الشيطان خلف هذه الأشياء لعلّة مشتركة أنّها تلهي و تغيب العقل قليلا أو كثيراً؛ فينبغي الحذر منها. و التحذير من شيء لا يعني الحكم بحرمته، فالله تعالى حذّرنا من أزواجنا و أولادنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن 14-15)
ثالثا: قول مالك ”إنّا يفعله عندنا الفساق“ حقّ أنّه لازال يفعله عندنا الفساق في غالب الأحيان، فتجد مجتمع المغنين و العازفين يرتبط كثيرا بالسكر و العربدة، و كذلك مجتمع اللاعبين (كفر و وتر!). لكنّ هذا لا يعني حرمة هذه الأشياء في جنسها، فمثلا بينما نزّه الله عزّ وجلّ نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن تعاطي الشعر: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْر وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) (يس 69) و بينما ذمّ الشعراء (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء 224-226) فإنّه تعالى استثنى من ذلك الصالحين: (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا …) (الشعراء 227).
رابعا: خير ما نفهم حكم الغناء بقياسه على الشعر: تجد في البخاري ”أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً“ و تجد بعده بقليل: ”عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا“! و خير ما توفق بين هذه الأحاديث بالتريّث و ترك العصبيّة، هي مفهومة ببساطة، و كلّ شخص يستطيع شرحها إذا توقف عن النظر إلى الأحاديث على أنّها لائحة محرّرة للحلال و الحرام، و نظر إليها على أنّها سرد لوقائع نفهم منه عبرا و معاني. و بالمناسبة وقفت أثناء تحرير هذا المقال على نص لهذا الحديث عند مسلم: ” عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم بِالْعَرْجِ إِذْ عَرَضَ شَاعِرٌ يُنْشِدُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم خُذُوا الشَّيْطَانَ أَوْ أَمْسِكُوا الشَّيْطَانَ لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا“! فما تدري لعلّ هذا ’الشيطان‘ كان ينشد شيئا من شاكلة ’البنسلين يا تمرجي‘ أو نحوه مما ينتقد حتى عند من يستمع الغناء. على كلّ فقد حكوا الاتفاق على أنّ الشعر ليس حراماً، فلم يقولوا أنّ رسول صلّى الله عليه وسلّم الله لم يقرّ من قال بل قال هو بلسانه للشاعر شيطانا.
خامسا: لكي نخطو للأمام أرجو من الزملاء أن يتركوا قول ما لا معنى له، مثل أنّ ”الدف ليس من المعازف“، و أنّ ”الغناء يجوز فقط في العيد و من البنات الصغار“. كفّوا عن هذه الظاهريّة؛ أو أقرّوا بها علنا.
أخيرا: لكلّ مقام مقال! الغناء سُمِح لعائشة رضي الله عنها ’الحديثة السنّ الحريصة على اللهو‘، و أنكره أبو بكر رضي الله عنه الذي ما غاب عن ذكر الله عزّ و جلّ؛ و سُمِح بندب آباء الرُبيّع، و أُنكر نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمعرفة الغيب؛ و سمح بالرقص للحبش، و أنكره عمر؛ و ندب الغناء للأنصار الذين ’يعجبهم اللهو‘، و لم يخطر ذلك لعائشة رضي الله عنها. و لدينا نحن كذلك يرقص الشباب، و ننكره على من كبر سنه أو مقامه؛ و نسمع ”يا قماري“، و ننكر ”البنسلين يا تمرجي“؛ و يرقص الشايقية رقصا قد ينكره الجعليّون. الأفضل لو تركنا الإفتاء جزافا بالتحريم و التحليل: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) (النحل 116) و أعملنا فينا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ لَكُنّا من المفلحين!
ختاما: لا تتسع قناة لوحة الإعلانات لبثّ كلّ شيء و نقل كلّ وجهة نظر في هذه المسألة، فأرجو أن يكون ما كتبته هنا مفيدا. و أنا على استعداد لسماع أيّ استدراك أو نقد أو نصيحة أو معلومة؛ و قد تركت اسمي و رقم هاتفي أدناه.