النموذج البديل: الأوساط الفكريّة

ها قد فرغنا من الحديث عن الكائنات و علينا الآن تقديم النموذج البديل:

تعريفٌ: «الوسط الفكريّ البحت هو أيّ شيءٍ يتلقّى الآراء من أيٍّ من المنتمين له ثمّ يعيد بثّها إلى جميع المنتمين بعد تجريدها من شخصيّة صاحبها.»‏

أن يتلقّى شيءٌ الآراء من أحدٍ ثمّ يعيد بثّها إلى الآخرين فهذا ممكن. أمّا أن يجرّدها من شخصيّة صاحبها فهذا ما نحاول أن نطوّره مع الأيّام. لذلك لا نتوقّع أن نجد نماذج حيّةً لأوساطٍ فكريّةٍ بحتةٍ في الواقع، بينما نجد عدداً من الأمثلة لأوساطٍ فكريّةٍ اعتياديّة: هذا الـ’بورد‘ يمكن اعتباره وسطاً فكريّاً، إذ أنّه يتلقّى الآراء منّي و منك و من غيرنا ثمّ يعيد بثّها للقرّاء (تذكّر أنّ الآراء لم تكن مكتوبةً أصلاً و إنّما كتبت بالأسلوب المناسب للبورد). و فيما عدا الاسم المكتوب في آخر الورقة و الأسلوب في الكتابة و المصطلحات فليس ثمّة ما يشير إلى شخصيّة الكاتب. فماذا لو كانت هنالك طريقةٌ متعارفٌ عليها لعرض الآراء عند جميع كتّاب المقالات في هذا الوسط الفكريّ؟ حينئذٍ سيختفي أسلوب الكاتب – تذكّر ما قلناه عن توحيد أسلوب العرض عند الكائن المثاليّ. تذكّر أيضا أنّك (عادةً) لا تعرف شخصيّة الكاتب من خلال برهانٍ رياضيٍّ مثلاً.

إذن فهذه هي الفكرة الرائدة في الأوساط الفكريّة: الآراء لا تقيّم بشخصيّة صاحبها و لا بعدد أنصارها و إنما تجرّد من هذا و ذاك لتقيّم بمحتواها. هذا بخلاف المعلومات التي قد يكون مهمّاً معرفة مصدرها – الرأي لا يحتمل الصدق و الكذب بينما المعلومة تُصدّق و تُكذّب.

من أجل فهم أوضح لفكرة الأوساط الفكريّة يمكن أن نتخيّلها كمائعٍ (بركة ماءٍ مثلاً) يلتفّ حوله عددٌ من الناس ينهلون منه (دون أن ينقص!) و يصبغونه بآرائهم و أفكارهم، و الصبغة الأكثر تركيزاً (الفكرة الأكثر منطقيّةً و قبولاً) هي التي تميّز الوسط. وما أن يقطر أحدهم قطرةً من صبغةٍ ما حتىّ تذوب سريعاً و تصل إلى الآخرين جميعاً بنفس السرعة تقريباً (و هذا ما لم يوفّره نموذج الكائنات). جديرٌ بالقول أنّ تسمية الوسط تكون على الصبغة الغالبة فيه و يتعارف عليها الناس، و لا تكون شيئا يختاره المنتمون، فمثلا يقال الوسط الإسلاميّ إن كانت هذه هي الصبغة الغالبة، أو الوسط الديموقراطيّ أو الوسط الاشتراكيّ أو الوسط الأكاديميّ (قارن بالكائنات).

و المبدأ الثانيّ للأوساط الفكريّة هو أنّ الجديد لا يمحو القديم، و إنّما تكون كلّ الأفكار موجودةً و ما على المرء إلاّ أن يختار ما يناسبه، بعيداً عن أيّة ميولٍ أو ترويج.

كمثالٍ حيٍّ للأوساط الفكريّة خذ شبكة الإنترنت: محيطٌ لا نهائيٌّ، كلٌّ يحمل آراءه و أفكاره، و حجمٌ مهول من المعلومات .. و هذا هو المبدأ الثالث في الأوساط الفكريّة: غنيّةٌ جدّاً بالمعلومات، و تملك آليّة لتنقيح هذا المعلومات و تبويبها.

هذه هي الخطوط العريضة لفكرة الأوساط الفكريّة، و لا أخفي شعوري بأنّني لم أكن موفّقاً في العرض هذه المرّة، و لكنّني أعد بأن أوضّح الفكرة ما استطعت شفاهةً و كتابةً إن شاء الله – و إنّما استعجلت في تقديمها ليشاركني التفكيرَ من يريد. والاجتهاد الآن يكون في اقتراح أوساطٍ فكريّةٍ فعّالة، و في شرح و تفصيل مفاهيم و مسائل مثل:

  • الإلزام و الالتزام‏.‏
  • التأثير بالاقتداء.‏
  • التصرّف حسب الاقتناع.‏
  • الأسلوب الأفضل لعرض الآراء‏.‏
  • نمط التعامل مع الأوساط الفكريّة: أخذ أم عطاء أم الاثنان.‏
  • مستقبل الأوساط الفكريّة.‏
  • التعامل بين الأوساط الفكريّة.‏
  • القطبيّة والأوساط الفكريّة‏.‏
  • كفاءة الأوساط الفكريّة‏.‏
  • تعدّد الانتماء في الأوساط الفـكريّة.‏

و مئاتٍ من المواضيع المتعلّقة بهذا الاتّجاه الجديد – بالنسبة لي على الأقلّ. أختم الحديث بالعبارة التالية:

«الأوساط الفكريّة جديرةٌ بأنّ تحلّ محلّ الكائنات التقليديّة.»‏

This entry was posted in Arabic, رؤى جديدة and tagged . Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *