متفرّقات

بعد كلّ هذا التمهيد النظريّ ظننت الوقت مناسباً لتقديم بعض النماذج العمليّة، غير أنيّ تذكّرت أنّ عليّ أن أمهّد الطريق لهذه النماذج بالتنبيه إلى بعض معوّقات العمل العامّ، فربما تتاح لي فرصة وحيدةٌ لعرض هذه النماذج. الآن أعرض لبعض المشاكل في العمل العامّ بإيجازٍ شديدٍ، فكلٌّ منها يستحقّ التفصيل كمسألةٍ منفصلةٍ. و الترتيب هنا ليس له أيّة دلالة:

* الأخذ برأي أحدهم‏: كثيراً ما يقتنع الشخص برأي أحدهم و لكنّه لا يعمل به خوفاً من نظرة الناس له: ”خلاص فلان قال ليك كدا طوّالي سمعتَ كلامو؛“ أو ما شابه هذه العبارة البغيضة! و لو كان كلّ الناس يفكّر بهذه الطريقة فلن نخطو خطوةً واحدةً إلى الأمام. لا يعيب في شيء أن تعمل برأي شخصٍ ما، حتىّ لو كان عدوّك، و حتىّ لو كان أقلّ منك فهماً أو مقاماً. هذه النقطة بالذات تهمّني كثيراً كشخصٍ يطرح آراءه للآخرين.‏

* الدفاع عن الموجود: هذه عادةٌ شاهدتها عند كثيرٍ من الناس، و كأنّ منطقهم: ”لو لم يكن صحيحاً لما كان موجوداً!“ ’عَبَدَة الواقع‘ كما سمّاهم أحد الزملاء.‏

‏* «حدّد موقفك قبل التفكير في موقف الآخرين»: كثيراً ما سمعت عباراتٍ مثل ”الناس ما بفهموا ليك الكلام دا!“ أنا لا يهمّني أن يفهم الناس مادمت أنت – أعني قائل العبارة – قد فهمت. لماذا يتحدّث البعض عن الآخرين و كأنّه ينظر إلى كلّ الموقف من مكانٍ بعيد؟ قد يكون خانني التعبير في توضيح هذه النقطة، و لكنّني أعتمد على تكرّرها أمامك كثيراً. و لأنّ هذا الاستدراك قد لا يرضي بعض الأصدقاء الذين أسمع منهم مثل هذه العبارات فإنّني أرجو منهم أن يفكّروا قليلاً، لعلّهم يجدون لي منطقاً في كلامي هذا.‏

* الاعتماد على شخصيّاتٍ معيّنةٍ: كثيراً ما تجد كلّ الأعمال العامّة مسندةً إلى نفس الأشخاص سواءً باختيارهم، أو مرغمين لأنّهم يخشون أن لا يعذرهم الناس أو يعتبروا اعتذارهم تدلُّلاً. هذا الوضع عيوبه كثيرة، فهو يعلِّم الآخرين الكسل، و يجعل نجاح العمل مربوطاً بأشخاصٍ بعينهم، و يعصم هؤلاء الأشخاص من النقد … الخ.‏

* الأغراض الشخصيّة: لا أظنّ الأغراض الشخصيّة تضرّ بحاضر العمل، و لكنّها قد تضرّ بمستقبله. و قد تفيد العمل أحياناً، فالعامل في عملٍ لكي يراه الناس أو ليكون قريباً من إحدى الزميلات مثلاً قد يحرص على أن يتقن العمل ليصل إلى مقصده. و ما أن يصل المُغرض إلى غرضه حتىّ يتوانى في العمل. هنا أقول أنّ العمل يجب ألاّ يكون موقوفاً على شخصٍ بعينه. و مَنْ مِنّا لا يعمل لأغراضٍ شخصيّةٍ؟ أليست الثقة بالنفس أو فرحة النجاح أو راحة الضمير كلّها في النهاية أغراضاً شخصيّةً؟ قد تبدو هذه النظرة غريبةً، لذلك أعطِها فرصتين للتفكير فيها قبل أن تحكم عليها، ذاكراً الحديث المشهور: ”إنمّا الأعمال بالنيّات و إنمّا لكلّ امرئ ما نوى …“ و الخلاصة هي: «العمل ذو التخطيط الجيّد لا يتأثّر بالأغراض الشخصيّة إلاّ إيجاباً.»‏

* تحرّي النقد: قد تجد الناس أحياناً متحاملين على عملٍ ما يبحثون عن عيوبه، لسببٍ أو آخر، متعلّقٍ بالعمل أو بالناقد نفسه. و جودة العمل قد تكون في بعض الأحيان دافعاً لتصرّفٍ كهذا. طبعاً لن يعجز الباحث عن استخراج العيوب، لكنّ نقداً كهذا ضرره أكبر من نفعه، لذا تجنّبْه. و يمكن للواثق من نفسه أن يميّز بسهولةٍ النقد المعتدل من النقد المتحامل.‏

* الفئات المتسلّطة‏: هنالك فئاتٌ من الناس قابلْتها في كلّ مجتمعٍ عشت فيه، و لكن لم أسمع أحداً جَرُؤَ على الحديث عنها. تلك الفئة التي تسيطر على المجتمع بصورةٍ خفيّةٍ: تصنّف الناس، تحدّد من هو الأفضل و من هو السيّئ، تستطيع أن تعزل أيّ شخصٍ اجتماعيّاً … الخ. أؤكد وجود هذه النوعيّة لمن لم يحسّ بوجودها. و رغم أنّ دراسة هذه الفئة قد تحتاج إلى إلمامٍ جيّدٍ بعلم النفس و الاجتماع، إلاّ أنّ التعامل معها قد لا يحتاج لأكثر من ذلك المبدأ الذي أعُدّه من أفضل ما تعلّمت: «لا تستجب للابتزاز مهما كان الثمن.» إذن لا يجب العمل على إرضاء هذه الفئة.‏

* فئةٌ أخرى هامّةٌ: هنالك بعض الناس أثّر عليهم توالي الإحباطات – أو أيّ شيءٍ غيره – فصاروا لا يحسّون بالناس و لا يتفاعلون مع المجتمع بصورةٍ سليمةٍ، رغم شعورهم الإيجابيّ تجاه المجتمع: قلبهم مع الناس، و قد يعملون على التوازي معهم، و لكن يتعسّر عملهم مع الناس و يتخلّله كثيرٌ من الأشياء التي يصعب فهمها. لا أنصح أبداً بإبعاد هذه الفئة عن العمل الجماعيّ، و لكنّني أنصح بالتعامل معها بحرصٍ آخذين في الاعتبار وضعهم هذا. و يمكن هنا استخدام مبدأ الميزانيّة: ”هل الفائدة من إشراكهم أكبر مما يبذل في التعامل معهم؟“ و قد ظننت أنّني أنتمي لهذه الفئة بالذات، لذلك أرجو أن تستغلّ الاستغلال الصحيح.‏

‏* «لن يوجد النشاط المطلوب إن لم يوجد النشاط أصلاً»: لا تسارع إلى انتقاد كلّ نشاطٍ قائمٍ بحجّة أنّه ’فارغ‘ أو غير مجدٍ أو لا يناسب من قام به أو لا يليق به. لا تهاجمْه إلاّ إن كان سيّئاً مطلقاً. ففي خمولٍ كالذي نعيشه قد يحدث التسلسل التالي: يظهر أيّ نوعٍ من النشاط، ثمّ يستحثّ نشاطاتٍ أخرى، ثمّ أخرى، و هكذا إلى أن يظهر النشاط المطلوب، و حينئذٍ يتبادل الناس فينتقل كلّ شخصٍ إلى خانته المناسبة. و حتىّ لو لم يتبادلوا فإنّ شخصاً من الأجيال القادمة سيهتدي الآن إلى خانته المناسبة بغير عناءٍ.‏

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | Leave a comment

التأثير بالتمثيل

إذا كانت لديك فكرةٌ تحملها و لكنّك لست من سينفّذها فإنّك تحتاج لأن تنقل الفكرة منك إلى غيرك؛ و ’التأثير‘ أقصد به هنا نقل الفكرة إلى من سينفّذها، و ’الفكرة‘ هنا لا أقصد بها ’الفكر‘ و إنما أقصد بها أيّ اقتراحٍ لعمل يقوم به الناس: ’فكرة‘ بالمعنى العامّيّ المعروف. توجد طرقٌ كثيرةٌ للتأثير، لكن يمكن أن نضع هذه الطرق في قسمين كبيرين:

  1. تأثيرٌ بالأمر و النهي و التوجيه: نعني به كلّ طرق التأثير التي تعتمد على وضعيّة حامل الفكرة و تترتّب على تنفيذها ’غرامةٌ‘ تقع مباشرةً على (غير) المنفّذين، من عقابٍ أو تأنيب ضميرٍ أو غيره. هذه هي الطرق التي يستخدمها عادةً الوالدين و الأساتذة و الحكّام.‏
  2. تأثيرٌ بالإقناع و التحريض: و هي الطرق التي لا يكون فيها لحامل الفكرة أيّ سلطانٍ على من يرجى منه تنفيذها، فلا يقبلون الفكرة إلاّ بكامل اختيارهم. هذه هي الطرق التي يستخدمها عادةً الأئمة و العلماء و الدعاة و الأصدقاء.‏

أسلوب التأثير بالأمر سريع النتائج، و لهذا يحبّذه الكثيرون: تجدهم يسعون جاهدّين ليصلوا إلى مقاعد الحكم – أو الوضعيّة التي يصدرون منها الأوامر أيّا كانت. و مع الأسف أصبحت هذه الطريقة محبّبةً للمفكّرين، فإن كانوا بعيدين عن مقاعد الحكم سعوا إليها بالقوّة العسكريّة أو بالتقرّب إلى الحكّام، و إن كانوا وسط جماعةٍ كرّسوا كلّ جهدهم لاستقطاب رأي الأغلبيّة، إلى غير ذلك مما يفعلون. و لتتأكّد من أنّني لا أخص بكلامي أشخاصاً بأعينهم، إذ أصبح هذا هو الحال الغالب.

مادام سريع النتائج فما هو عيب التأثير بالأمر؟ يعاني التأثير بالأمر من عيبين كبيرين:

  1. كثيراً ما يتعارض مع مبدأ الميزانيّة: قد تنتظر كثيراً حتىّ تجد الوضعيّة التي تريدها؛ و قد تحتاج لبذل الكثير حتىّ تصل إليها؛ سيضيع كلّ هذا و أنت لا زلت محتفظاً بالفكرة لنفسك؛ و قد لا تصل أبداً إلى الوضعيّة التي تريد؛ و قد لا تتمكّن من تنفيذ الفكرة حتىّ بعد أن تصل إلى تلك الوضعيّة، لأيّ سببٍ؛ و قد تكون الفائدة من تنفيذ الفكرة أقلّ مما بذلته من جهدٍ و وقتٍ لتصل إلى هناك. و لعل هذه الفقرة قد صارت الآن مهيّأةً لتستضيف العبارة التالية «أشرك الناس أفكارك، فقد لا تتاح لك فرصةٌ لتنفّذها بنفسك.»‏
  2. الأفكار التي تنتقل بالأمر كثيراً ما تصل مشوّهةً لدرجةٍ قد تفسد الفكرة أحياناً، و هناك أفكار لا تصلح لأن تنقل بالأوامر أصلاً.‏

بالنسبة للتأثير بالإقناع فإنّ حامل الفكرة يخاطب المنفّذين محاولاً إقناعهم بالفكرة، و لهم الخيار في قبولها أو رفضها – لا يُضيِّق خيارهم إلاّ جودة الخطاب. فإذا كان الخطاب مباشراً بالكلام فإنّ البلاغة تخدم الفكرة كثيراً، و إن كان بالكتابة، كحال هذه الورقة و أخواتها، فإنّ الإخراج الجيّد و تجنّب الأخطاء اللّغويّة و اختيار المكان المناسب للنشر … الخ سيضاف إلى استعداد الناس لقبول الفكرة. و ربّ قائلٍ أنّه ينبغي أن تجرّد الفكرة من كلّ الظروف لينظر إليها بحيادٍ؟! هذا هو مطلبي الذهبي، و لكنّه ليس حاصلاً و لن يحصل أبداً (و الله أعلم)، لذلك اكتفي بالمطالبة بتجريد الفكرة من شخصيّة حاملها. و الجميع يعرفون الفرق بين الدراسة في قاعةٍ حارّةٍ و الدراسة في قاعةٍ مكيّفةٍ، و كذلك نعرف الفرق بين الأستاذ الذي يجيد الشرح و الذي لا يجيده. فلو أجاد الأستاذ الشرح أو لم يجده قد لا يختلف حكمك على صحّة معلوماته؛ ما يختلف هو أنّ الأخير قد يحتاج لأن يعيد الكلام مرّتين أو ثلاثاً قبل أن تفهمه. أقول: «تجريد الأفكار من شخصيّة صاحبها يعني الحكم بحيادٍ على الفكرة دون اعتبار لصاحبها، و لكنّه بالضرورة لا يضمن أنّ الأشخاص المختلفين سيتمكّنون من عرض أفكارهم بنفس الوضوح.»‏

بعد هذا التقديم الطويل أريد أن ألفت النظر إلى أسلوبٍ من أساليب التأثير بالتحريض أؤمن بكفاءته في مجتمعنا، و هو التأثير بالتمثيل. و التمثيل أعني به عرض الفكرة حيّةً أمام من يراد منه تنفيذها: ’بيان بالعمل‘ كما تقول العساكر. لقد لاحظت أنّ البيان بالعمل أسرع و أفعل في نقل الأفكار من مجرّد الخطاب كلاماً أو كتابةً. أنظر مثلاً إلى العبارات التي يستخدمها الناس كثيراً في هذه الكلّيّة مثل ”ما بتقدر تعرف“ و ”وللا شنو“ و ”جاوس“: استخدمها واحدٌ ثمّ انتقلت إلى من حوله ثمّ انتشرت بعد ذلك سريعاً حتىّ أصبح يستخدمها كلّ الناس في الكافتريا – باستثناء القليلين الذين تغيظهم هذه العبارات. و الظاهر أنّ الناس في السودان يتأثّرون سريعاً بما يسمعونه في الراديو أو يرونه في التلفزيون أو يقرأونه في الجرائد، و يقتبسون كثيراً من العبارات من الأغاني، و تتأثّر لغتهم بالمدارس … الخ. و يمكن استخدام أيٍّ من هذه الوسائل كقناةٍ للتأثير بالتمثيل، أو بالإقناع عموماً. و قد جرّبت قبل يومين فقط أن كنت راكباً مع بعض الزملاء في مركبة عامّة، و كنّا ننظر إلى شيءٍ معيّنٍ في الشارع: لاحظت في الحال أنّ بقيّة الركّاب وجّهوا أنظارهم إلى حيث ننظر. و لو جرّبت أن تجري في الشارع لوجدت من يجري خلفك!! أعلم أنّ هذه الأمثلة قد تبدو مستفزّة و تغيظ البعض، لذلك أعيد – بصياغةٍ جديدةٍ – ما أردّده كثيرا: «أنا لا أمانع أن يكرهني أحدٌ بسبب آرائي، و لكنّني لا أقبل أن يكره آرائي بسببي.»‏

ما هي مزايا التأثير بالتمثيل فضلاً عن كفاءته في هذا البلد؟ يمتاز بالآتي:

  • البيان بالعمل يضمن أن تصل الفكرة خاليةً من التشويه كأوضح ما يمكن.‏
  • تنفيذ حامل الفكرة لفكرته يعطيه فرصةً لاختبارها فيعرف عيوبها و يحسّنها.‏
  • ما دامت الفكرة جيّدةً فإنّ حاملها سيستفيد شخصيّاً من تنفيذها، و إلاّ فالأفضل ألاّ ينقلها للناس.‏
  • إذا رأى الناس صاحب الفكرة يعمل بها فإنّ ثقتهم فيها تزداد.‏

ختاماً أقول:

التأثير بالإقناع يمتاز على التأثير بالأمر بأنّه ينقل مسئوليّة الفشل من حامل الفكرة إلى منفّذيها، لأنّه لم يجبرهم على تنفيذها، و التأثير بالتمثيل يمتاز فضلاً عن ذلك بأنه ينقل مسئوليّة الفشل من الفكرة إلى منفّذيها، لأنهّم رأوها تنفّذ ناجحةً أمامهم.

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | Leave a comment

حريّة الرأي

أعتذر أوّلاً لأهل السياسة لاستعارتي هذا التعبير الذي استخدموه كثيراً بمعنى ”حريّة التعبير عن الرأي؛“ أمّا المقصود هنا فهو حريّة الرأي نفسه من القيود التي تفرض عليه، مثل شخصيّة و ظروف صاحبه. كثيراً ما تكلّمتُ عن تجريد الرأي من شخصيّة صاحبه، و سأحاول الآن توضيح بعض المنطق وراء ذلك لعلّ القارئ يقتنع به إن لم يكن مقتنعاً، و لكن أنبّه أوّلا إلى أنّني أتحدّث عن الرأي و ليس المعلومة، فلنتأكّد أوّلاً من الفرق بين الاثنين. ”اتّفقنا؟“ ”اتّفقنا.“

لتوضيح الفكرة نستعين ببعض مفاهيم الذكاء الصناعيّ (غريب!). يقسّم أهل الذكاء الصناعيّ المعرفة إلى معلوماتٍ و استنباطٍ. فمثلا إذا سئلت عن قيمة ”9×11“ لأجبت من حفظك: ”99؛“ هذه معلومةٌ. لكن لو سئلت عن قيمة ”19×21“ لأجريت عملية الضرب ثمّ أجبت: ”399؛“ هذا استنباطٌ. فالاستنباط إذن هو اشتقاق معلوماتٍ جديدةً من معلوماتٍ موجودةٍ – أوّليّةٍ أو مستنبطةٍ – بطريقةٍ أو أخرى، و المعرفة الاستنباطيّة هي طرق الاشتقاق هذه.

إذا طبّقنا هذه المفاهيم على المعلومات و الآراء نجد أنّ الرأي يعتمد على المعلومات المتوفّرة لصاحبه و المعرفة الاستنباطيّة لديه، إضافة إلى متغيّر الظروف الاستثنائيّة. و هذا الأخير يشمل كلّ ما لم يؤخذ في الاعتبار مما له علاقةٌ – معروفةٌ أو غير معروفةٍ – بالمسألة تحت البحث: يطول الكلام عنه، لكن لحسن الحظّ لا نحتاجه الآن في الظروف الاعتياديّة.

و الآن ما علاقة كلّ هذا بحريّة الرأي؟ عندما يرجّح الناس رأي فلانٍ لأنّه عالمٌ بهذا الأمر، و يستضعفون رأي فلانٍ لجهله بذاك الموضوع، فإنّهم يستندون إلى فكرتهم عن حجم و نوع معلوماته دون اعتبارٍ لقدرته على الاستنباط؛ و هذا خطأٌ. و من الخطأ أيضا أن تعتقد أنك تعرف تماماً حجم و نوع المعرفة الاستنباطية عند أحد الأشخاص، لأنّك حتىّ لا تستطيع أن تعرف حجمها و نوعها عندك أنت نفسك! و كذلك الحال بالنسبة للمعلومات، فقد قيل أنّ كلّ ما رآه الإنسان أو سمعه موجودٌ في ذاكرته، و لكن قد لا يصل إليه؛ و لكن قد يصل إليه دون أن يشعر أثناء استنباطه رأياً ما، و بسرعةٍ هائلةٍ!! و إنّ رأياً يستند إلى كلّ هذه المعلومات لجديرٌ بالنظر. و ماذا إن قُلتُ: ”إنّ كثيراً من المشاعر من ودٍّ و بغضٍ و ثقةٍ و عدمها و ارتياحٍ و انقباضٍ و غيرها إنّما هي آراء تستند على معلوماتٍ غير ظاهرةٍ (خلفيّاتٍ)!!“ فكّر في هذه العبارة.

شيءٌ آخر أريد أن أقوله في هذا الباب، و هو أنّه قد يكون من الخطأ أحيانا أن تحاول أن تتتبّع استنباط شخصٍ ما فتفترض أنّه قد بنى رأيه على كذا و كذا. تذكّر أنّه قد يوجد ما لا حصر له من الطرق لاستنباط رأيٍ في أمرٍ ما، كلّ طريقةٍ تستند على كتلةٍ من المعلومات الأوّلية و المستنبطة قد تختلف عن ما استندت عليه طريقةٌ أخرى. و إذا رجعت إلى مثال عمليّة الضرب ”19×21“ فقد تجد من يجريها هكذا: ”19×21 = 19×1 + 19×20 = 19 + 380 = 399،“ و لكن قد تجد من يجريها هكذا: ”19×21 = [20-1]×[20+1] = 20×20 – 1×1 = 400 – 1 = 399.“ فالأوّل قد استخدم طريقة الضرب المطوّل مستنداً على أنّ 19×1 = 19: معلومةٌ مستنبطةٌ من أنّ ضرب أيّ عددٍ في 1 يعطي العدد نفسه، و أنّ 19×20 = 380: معلومةٌ مستنبطةٌ بعدّة طرقٍ، و استند كذلك على عمليّة الجمع: معرفة استنباطيّة. و الثاني أجرى عمليّة فضل مربّعين مستنداً على ملاحظة أنّ 21 – 19 = 2×1، ثمّ على أنّ 220 = 400، ثمّ على عمليّة الطرح. و ثالثٍ قد يجري عمليّة الضرب هذه بطريقة أخرى نعرفها أو لا نعرفها.

هناك شيءٌ آخر يجب أن يتحرّر منه الرأي، و هو ظروف صاحبه: «لا تُفصّل رأيك ليخدم ظروفك؛» فسواءٌ كنت تعمل به أم لا، و سواءٌ كان في صالحك أم لا، فيجب أن لا يتغيّر رأيك. و قد تأتي على الشخص مواقف يفضّل فيها أن يحتفظ برأيه: عملاً بالنصّ المتقدّم أقول أن هذا ليس هو الصواب بالضرورة لأنّي أفعله. لكنّ المهمّ هو أن تتأكّد عندما تبدي رأياً أنّه فعلاً رأيك الذي تراه صحيحاً، و ليس الذي تراه مناسباً للوضع. و بالنسبة لسامعيك فينبغي ألاّ يحاسبوك برأيك، إلا في حالة أن يتفقوا معك في صحّة هذا الرأي. و ماذا عن قول القائل:

لا تنهَ عن خُلُقٍ و تأتي مثله‏ ××× عارٌ عليك إذا فعلت عظيم

؟ لا أعرف ما يعنيه بالضبط، و لكنّني أعرف أنّ على الشخص أن يفصّل أفعاله على آرائه و ليس العكس.

ختاماً أشدّد على أهمّيّة تحرير الرأى. و لا ألقى اللّوم على من يقول: ”لو دايرينّي أقرا ليكم 60 كتاب عشان تسمعوا رايي إن شاء الله عنّكم ما سمعتوهـ؛“ و لا ألقيه على من احتفظ برأيه مخافة أن يضعه رأيه تحت أنظار الناس. و لو خسر هذا أو ذاك من احتفاظه برأيه فهذا غير مهمّ؛ المهمّ هو أنّ الناس قد يخسرون رأياً ربّما كان مفيداً.

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | Leave a comment

المواطن الصالح

تتبنّى المعتقدات المختلفة نماذج متباينةً للمواطن الصالح تناسب أهدافها و توافق مبادئها. لا نريد الآن أن نضع نموذجاً للمواطن الصالح و لكن نريد فقط أن نلحق العبارة التالية بتعريف النموذج الذي قد نتّفق عليه:

«المواطن الصالح يؤدّي أعمالاً دوريّةً متقنةً، أو يبتدع أشياء (إيجابيّة) جديدةً، أو لديه مهاراتٌ و يمارس هواياتٍ.»

يوجد الكثير من الأمثلة للأعمال التي يمكن أن يؤدّيها المواطن، و لكنّني أفضّل هنا ألاّ أخصّص مثالاً بعينه و أن أترك المجال لمزاج القارئ؛ المهمّ في العمل أن يكون دوريّاً و متقناً. الدورة قد تكون زمنيّةً (يوميّاً، أسبوعيّاً، …) أو ظرفيّةً كلّما حدث شيءٌ معيّنٌ. و الإتقان يتضمّن ألا ينخفض مستوى العمل عن أيّ مستوىً بَلغَه: أن يتحسّن باطّراد.

الفائدة العظمى من العمل الدوري تظهر عندما ’يتناغم‘ نشاط الناس و تدور آلة المجتمع بإيقاعٍ منتظمٍ. و لعلّك كنت حاضراً في إحدى مباريات ’هندسة‘ حين دخلت جماعةٌ من طلاّب ’آداب‘ إلى الملعب ليفسدوا المباراة. كان جمهور هندسة كبيراً جدّاً في ذلك اليوم و حاولوا أن يتحلّوا بالصبر. بدأ أحد المشجّعين بالتصفيق ثمّ تبعه آخر، ثمّ ثالثٌ و رابعٌ، ثمّ امتلأ المدرّج بالتصفيق، ثمّ استجاب المشجّعون في الجانب المقابل .. و بعد قليلٍ امتلأ الفضاء بالتصفيق، بإيقاعٍ واحدٍ: مجرّد ’صفقة‘ أنتجت شيئاً رهيباً! و إن لم تكن حاضراً في ذلك اليوم فإنّك تحضر كلّ عام التـكبير في أيّام النحر، و تسمع في كلّ جمعةٍ قول المصلّين ’آمين‘، و تذكر هتاف الآلاف في المظاهرات، و تعرف قوّة الغناء في مجموعةٍ و العزف في أوركسترا … الخ.

ربّما نكون قد ابتعدنا قليلاً عن موضوعنا الأساسيّ، فهناك سؤالٌ ينبغي أن نجيب عليه و هو: ”ماذا إن لم يتناغم المجتمع معي؟“ حتّى في هذه الحالة فإنّك ستستفيد الكثير و لن تخسر شيئاً: ستصبح شخصاً منضبطاً و منظّماً تتناغم أعمالك بإيقاعٍ واحدٍ، و العمل الذي تؤدّيه في المجتمع سيعود عليك بالفائدة عاجلاً أو آجلاً – و هذا موضوعٌ قائمٌ بذاته.

عن الإبداع يوجد الكثير من الأمثلة التي لن نخصّص أيّاً منها كذلك؛ و فيه نوعان: أن يقدّم الشخص شيئاً جديداً (و الجديد مسألةٌ نسبيّةٌ)، و أن يعيد تقديم شيءٍ موجودٍ بطريقةٍ جديدةٍ أكثر فائدة. و الإبداع مهمٌّ لنموّ المجتمع و صيانته، إذ يبدو أن المجتمع الذي لا يُدفع للأمام يتدحرج للوراء.

يظنّ الكثيرون أنّه ليس في وسع جميع الناس ابتداع الجديد؟! هذا أمر لا يمكن التأكّد منه، و لكن من حسن الحظّ أنّنا قد لا نحتاج لعددٍ كبيرٍ من المبدعين. و في هذه الفترة و طالما كان غرض الإبداع هو تنمية و صيانة المجتمع، فإنّه لا بدّ أوّلاً من تأسيس المجتمع و تنغيمه.

و ماذا عن الهوايات و المهارات؟ هذه مهمّةٌ لأنّها تهيئ للشخص وضعاً نفسيّاً يجعله قادراً على أداء النشاط الدوريّ أو ابتداع الجديد. و الأمثلة كثيرة، و لكن للمرّة الثالثة لن نخصّص.

إذن إذا شبّهنا المجتمع بآلةٍ فأنّ النشاط الدوريّ هو وقود هذه الآلة، و الإبداع هو قطع غيارها، و الهوايات و المهارات هي زيت تشحيمها. و الآن و بعد هذا الكلام المختصر إذا شعرت بأهميّة – أو على الأقلّ بفائدة – أيٍّ من هذه الأشياء الثلاثة فلتبدأ بسم الله.

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | Leave a comment

أهداف ومقاصد

‏نشرت في العام الدراسيّ الماضي سلسلة مقالاتٍ سمّيتها ’رؤى جديدة‘، و لم أذكر هدفي منها صراحةً ظنّاً أنّه مفهومٌ ضمناً من محتواها. لكن تبيّن لي أن أتحرّى الوضوح. و لو أنّ كلّ قائلٍ أو فاعلٍ أو كاتبٍ وضّح للناس مقدَّماً مقصده من قوله أو فعله أو كتاباته لربّما أراحهم كثيراً .. فلنبدأ بسم الله:

«هدفي الأساسيّ من ’رؤى جديدة‘ هو تحسين العنصر البشري في هذا البلد؛» بمعنى أن نتحوّل من متلقّين للفكر و العلم و الحضارة و المستهلَكات المادّيّة إلى منتجين لها، و لا أقول مصدّرين في هذا الوقت. هذه هي النقطة الأهم، و هي بالذات التي غفل عنها أو أسقطها كثيرٌ من دعاة الإصلاح المعاصرين – إن لم يكونوا جميعهم: كلّ دعواهم هي اللّحاق بركب التقّدم أو مواكبة الشعوب المتحضّرة أو استعادة أمجاد الماضي (المزعومة؟!) … الخ.

أعلم تماماً أنّ هذا النصّ الجريء قد يَعْرِضني لكثيرٍ من الكلام، و ربّ قائلٍ: ”من يظنّ نفسه حتىّ يصلحنا؟“! له قوله و لي ظنيّ و للقارئ رأيه. و بهذه المناسبة فإنّني أرجو أن لا أكون محتاجاً إلى أن أدفع عن نفسي شبهة الغرور أو غيرها بين كلّ عبارة و التالية: لا أريد أن أخسر أحد زملائي، فمن كان سيتّهمني بالغرور أو ’عدم الموضوع‘ أو غير ذلك فأرجو منه أن لا يقرأ بقيّة هذه الورقة أو ما قد يليها. نعود للنصّ.

التساؤل المنطقّيّ هنا هو: ”هل تستطيع سلسلة مقالاتٍ تحقيق غايةٍ كهذه؟“ نظريّاً نعم، إذا وجد الكاتب المناسب للقُرّاء المناسبين. قد لا أكون الكاتب المناسب، و قد لا تكون أنت القارئ المناسب، و لكنّ هذا هو المتيسّر بالنسبة لي الآن. و لكي أكون واقعيّاً فإنّني أُلفِت النظر إلى أن النصّ المتقدّم لم يقل أن هذه المقالات ستحقّق هدفها؛ كلّ المقصود هو أنهّا موجّهة في اتّجاه هذا الهدف.

ربّما كانت الخطوط العريضة لتحقيق هذه الغاية هي وضع عددٍ من المبادئ، إيجاد أوساطٍ فكريّةٍ لعرض هذه المبادئ، و إعداد أشخاصٍ مستقلّين فكريّاً لهذه الأوساط. و الشخص المستقلّ فكريّاً هو المؤهلّ للتعامل مع الأوساط الفكريّة، و يمكن تعريفه كما يلي: «الشخص المستقلّ فكريّاً هو الذي لا تستطيع التنبّؤ بردّ فعله تجاه موقفٍ معيّنٍ إلاّ بناءً على تصريح منه هو بالقول أو الفعل.» فهو إذن لا يمكن قيادته (بسهولة). أرجو أن تتأكّد من استيعابك الكامل لمعنى هذه العبارة.

ما هو مدلول ما تقدّم؟ يترتّب على هذا الكلام أن نغيّر نظرتنا لكثيرٍ من الأشياء. مثلاً لن يفكّر الشخص المُصلِح بالطريقة التقليديّة (العمياء) في أنّ مشكلة السودانيّين هي تفشّي الجهل و يعدّ خطّةً موسّعةً لنشر التعليم، بل سيعمل على جعل الناس مستقلّين فكريّاً و تنتهي مهمّته عند هذا الحدّ فيتركهم ليقرّروا هم إن كانوا بحاجةٍ للتعليم أم لا، و نوع التعليم الذي يحتاجونه: «لست مسئولاًعن حلّ مشاكل الناس؛ حاول بدلاً من ذلك أن تعلّمهم كيف يحلّون مشاكلهم.» كذلك قد يكفّ الناس عن الحديث عمّن سيحكم و كيف يصل إلى الحكم، و يلتفتون إلى الحديث عن بناء هيكلٍ اجتماعيٍّ و إداريٍّ و فكريٍّ (و هو الأهمّ) متماسكٍ يؤثّر في نظام الحكم و لا يتأثّر به.

ربّ قائلٍ أن هذا الكلام نظريٌّ لا يمكن أن ينزل للواقع. إن كنت تشكّ في قدرة الشعارات و العبارات على تغيير حياة الناس فلتذكر أنّ الإسلام قائمٌ في أساسه على الشهادة ”لا إله إلاّ الله محمّدٌ رسول الله.“ و لو قلت أنّ الشهادة استمدّت قوّتها من أنّها موحاة من عند الله عزّ و جلّ فلتذكر أيضاً ما صنعته عباراتٍ مثل ”لا مستحيل تحت الشمس،“ و ”دعه يمرّ، دعه يعمل،“ و ”يعمل كلٌّ حسب طاقته، و يأخذ كلٌّ حسب حاجته،“ أو كما نصّت هذه العبارات المشهورة. المهمّ هو أن يستوعب الناس الشعار الذي يرفعونه، بكلّ أبعاده، و يعملوا به.

ختاماً أريد أن أشير إلى أمرين: الأوّل هو أنّ كلّ رأيٍ كتبته سابقاً أو لاحقاً (إن شاء الله) قابلٌ بالنسبة لي للنقاش و التغيير، و الثاني هو أنّه طالما كانت الفكرة غريبةً فلن يكون غريباً أن تقرأ في ما قد يلي كلاماً قد يبدو غريباً للوهلة الأولى.‏

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | Leave a comment

النموذج البديل: الأوساط الفكريّة

ها قد فرغنا من الحديث عن الكائنات و علينا الآن تقديم النموذج البديل:

تعريفٌ: «الوسط الفكريّ البحت هو أيّ شيءٍ يتلقّى الآراء من أيٍّ من المنتمين له ثمّ يعيد بثّها إلى جميع المنتمين بعد تجريدها من شخصيّة صاحبها.»‏

أن يتلقّى شيءٌ الآراء من أحدٍ ثمّ يعيد بثّها إلى الآخرين فهذا ممكن. أمّا أن يجرّدها من شخصيّة صاحبها فهذا ما نحاول أن نطوّره مع الأيّام. لذلك لا نتوقّع أن نجد نماذج حيّةً لأوساطٍ فكريّةٍ بحتةٍ في الواقع، بينما نجد عدداً من الأمثلة لأوساطٍ فكريّةٍ اعتياديّة: هذا الـ’بورد‘ يمكن اعتباره وسطاً فكريّاً، إذ أنّه يتلقّى الآراء منّي و منك و من غيرنا ثمّ يعيد بثّها للقرّاء (تذكّر أنّ الآراء لم تكن مكتوبةً أصلاً و إنّما كتبت بالأسلوب المناسب للبورد). و فيما عدا الاسم المكتوب في آخر الورقة و الأسلوب في الكتابة و المصطلحات فليس ثمّة ما يشير إلى شخصيّة الكاتب. فماذا لو كانت هنالك طريقةٌ متعارفٌ عليها لعرض الآراء عند جميع كتّاب المقالات في هذا الوسط الفكريّ؟ حينئذٍ سيختفي أسلوب الكاتب – تذكّر ما قلناه عن توحيد أسلوب العرض عند الكائن المثاليّ. تذكّر أيضا أنّك (عادةً) لا تعرف شخصيّة الكاتب من خلال برهانٍ رياضيٍّ مثلاً.

إذن فهذه هي الفكرة الرائدة في الأوساط الفكريّة: الآراء لا تقيّم بشخصيّة صاحبها و لا بعدد أنصارها و إنما تجرّد من هذا و ذاك لتقيّم بمحتواها. هذا بخلاف المعلومات التي قد يكون مهمّاً معرفة مصدرها – الرأي لا يحتمل الصدق و الكذب بينما المعلومة تُصدّق و تُكذّب.

من أجل فهم أوضح لفكرة الأوساط الفكريّة يمكن أن نتخيّلها كمائعٍ (بركة ماءٍ مثلاً) يلتفّ حوله عددٌ من الناس ينهلون منه (دون أن ينقص!) و يصبغونه بآرائهم و أفكارهم، و الصبغة الأكثر تركيزاً (الفكرة الأكثر منطقيّةً و قبولاً) هي التي تميّز الوسط. وما أن يقطر أحدهم قطرةً من صبغةٍ ما حتىّ تذوب سريعاً و تصل إلى الآخرين جميعاً بنفس السرعة تقريباً (و هذا ما لم يوفّره نموذج الكائنات). جديرٌ بالقول أنّ تسمية الوسط تكون على الصبغة الغالبة فيه و يتعارف عليها الناس، و لا تكون شيئا يختاره المنتمون، فمثلا يقال الوسط الإسلاميّ إن كانت هذه هي الصبغة الغالبة، أو الوسط الديموقراطيّ أو الوسط الاشتراكيّ أو الوسط الأكاديميّ (قارن بالكائنات).

و المبدأ الثانيّ للأوساط الفكريّة هو أنّ الجديد لا يمحو القديم، و إنّما تكون كلّ الأفكار موجودةً و ما على المرء إلاّ أن يختار ما يناسبه، بعيداً عن أيّة ميولٍ أو ترويج.

كمثالٍ حيٍّ للأوساط الفكريّة خذ شبكة الإنترنت: محيطٌ لا نهائيٌّ، كلٌّ يحمل آراءه و أفكاره، و حجمٌ مهول من المعلومات .. و هذا هو المبدأ الثالث في الأوساط الفكريّة: غنيّةٌ جدّاً بالمعلومات، و تملك آليّة لتنقيح هذا المعلومات و تبويبها.

هذه هي الخطوط العريضة لفكرة الأوساط الفكريّة، و لا أخفي شعوري بأنّني لم أكن موفّقاً في العرض هذه المرّة، و لكنّني أعد بأن أوضّح الفكرة ما استطعت شفاهةً و كتابةً إن شاء الله – و إنّما استعجلت في تقديمها ليشاركني التفكيرَ من يريد. والاجتهاد الآن يكون في اقتراح أوساطٍ فكريّةٍ فعّالة، و في شرح و تفصيل مفاهيم و مسائل مثل:

  • الإلزام و الالتزام‏.‏
  • التأثير بالاقتداء.‏
  • التصرّف حسب الاقتناع.‏
  • الأسلوب الأفضل لعرض الآراء‏.‏
  • نمط التعامل مع الأوساط الفكريّة: أخذ أم عطاء أم الاثنان.‏
  • مستقبل الأوساط الفكريّة.‏
  • التعامل بين الأوساط الفكريّة.‏
  • القطبيّة والأوساط الفكريّة‏.‏
  • كفاءة الأوساط الفكريّة‏.‏
  • تعدّد الانتماء في الأوساط الفـكريّة.‏

و مئاتٍ من المواضيع المتعلّقة بهذا الاتّجاه الجديد – بالنسبة لي على الأقلّ. أختم الحديث بالعبارة التالية:

«الأوساط الفكريّة جديرةٌ بأنّ تحلّ محلّ الكائنات التقليديّة.»‏

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | Leave a comment

الكائن المثالي

بعد ما قدّمناه من نقدٍ و تصنيفٍ للكائنات يمكننا أن نقدّم الآن تصوّراً للكائن المثاليّ:

* الكائن المثاليّ كائنٌ مستقرٌّ: بلا برهان. و هنالك وضعان فقط (على حسب ما أرى الآن) يمكن فيهما أن يتشكّل كائنٌ مثاليٌّ الأوّل أن يجمع المنتمون على هذا التشكّل كخطوةٍ (ضروريّةٍ) لتحقيق أهداف الكائن، و الثاني أن يكون هدف الكائن هو المصلحة الخاصّة للأفراد المنتمين إليه.‏

* لم نفاضل بين الكائنات المتماسكة و تلك الهلاميّة‏. أقول بلا برهانٍ أنّ الكائن المثاليّ متماسكٌ و لكنّه يملك واجهة تعاملٍ عريضةً جدّاً مع مجتمعه مزوّدةً بعددٍ من المرشّحات تمنع اختلاط فكر الكائن مباشرةً بالجمهور و توفّر له الحماية بالتالي – يمكن أن نتخيّلها كجدار الخليّة و جلد الإنسان: تخرج ما تشاء و تسمح بدخول ما تشاء بآليّةٍ معيّنةٍ.‏

هذا هو الجانب السهل و الذي يمكن لكثيرٍ من الكائنات أن يحقّقه؛ و إليكم بالجانب الصعب:

* القطبيّة‏: لا يمكن لكائنٍ أن يخلو من القطبيّة (لماذا؟ أترك الإجابة الآن للقارئ و لنقاشٍ أطول في وقتٍ لاحقٍ إن شاء الله). ما يهمّنا في الكائن المثاليّ ألاّ تخرج به قطبيّته من مساره، فالكائن المثاليّ ليس له قطبيّةٌ خارجيّةٌ، و قطبيّته الداخليّة ملتزمةٌ بأهدافه المعلنة. و كما يمكن أن نتخيّل فالقطبيّة مقيّدةٌ بمبادئ و دستور وقوانين الكائن، و على هذا نقول: الكائن المثاليّ يوسّع و يفصّل مبادئه و دستوره و قوانينه حتىّ تؤول قطبيّته إلى ثابتٍ.‏

* الآراء و المعلومات تنتقل داخل الكائن المثاليّ بنفس السرعة بين أيّ مكانين فيه، بدون أيّة أحجبةٍ. هذا بخلاف الكائنات الواقعيّة التي تنتقل فيها الآراء و المعلومات من القمّة إلى القاعدة أسرع بكثيرٍ من انتقالها في الاتّجاه المعاكس. أجد أمامي ثلاث طرقٍ لتحقيق الوضع المثاليّ الأولى توفير قناة اتّصالٍ مباشرٍ بين أيّ فردين في الكائن، و هذا محالٌ، و الثانية إدخال مفهوم الوسط الناقل كما في الكمبيوتر، و هذا سيلي عنه كلامٌ كثيرٌ إن شاء الله، أمّا الطريقة الثالثة والتي أرشّحها للكائن المثاليّ فهي أن تكون سرعة انتقال الآراء والمعلومات كبيرةً جدّاً بحيث لا يظهر الفرق حتىّ لو تضاعفت المسافة – بسرعة الضوء إن جاز التشبيه. و الباب مفتوحٌ لاقتراح طرقٍ أخرى.‏

* لا يقفل ملف قضيّة نقاشٍ ما لم يتّفق فيها جميع الأعضاء، و لا يصدر عن الكائن تصرّفٌ جماعيٌّ إلاّ بإجماع و اقتناع الصادر عنهم. ففي حال الخلاف يصدر عن الكائن المثاليّ إعلانٌ برأيه الغالب و وزن هذا الرأي داخله. و مسألة وحدة التصرّفات هذه تحتاج إلى مزيدٍ من التفصيل كما يلي:‏

  • أوّل ما يفكّر فيه الكائن المثاليّ هو تثبيت قواعد لأسلوب التفكير في شكل ’خوارزميّات‘ بطريقة تضمن أنّه إذا أُعطيَت نفس المسألة السياسيّة أو الفكريّة أو أيّاً كان نوعها لأيّ شخصٍ في الكائن بنفس المعطيات فإنّه يصل إلى نفس الرأي؛ و إلاّ فبطريقة تضمن أن يقود النقاش بين أصحاب الآراء المتباينة إلى رأيٍ واحدٍ يقتنع به الجميع بطريقةٍ سريعةٍ و موجّهةٍ. هذا و ذاك يتضمّنان إدخال و تعريف مفاهيم و مصطلحاتٍ و آدابٍ عامّةٍ للنقاش و أساليب للعرض يُتعارف عليها تسهّل تبادل الآراء بين المتناقشين – و هذا الجانب الأخير هو ما أحاول الوصول إليه من هذه الكلمات الجديدة كـ’كائن‘ و ’قطبيّة‘ و ’مستقِر‘، ومن خلال شكل عرض هذه المقالات عموماً. قد يبدو هذا الأمر مشابهاً لأن يتحوّل جميع الأعضاء إلى نسخٍ من شخصيّةٍ واحدةٍ، و بالتالي تقلّ الكفاءة، لكنّ الأمر مختلفٌ تماماً، فالناس لم يصبحوا شخصاً واحداً لأنّهم يتكلّمون نفس اللغة. و للاختصار لك مجازاً أن تفكّر في العكس: أن يتحوّل الشخص الواحد في أسلوب تفكيره إلى شخصيّةٍ تحوى نسخةً من أسلوب كلٍّ من الآخرين، وبذلك يسهل التفاهم. و كلّما ابتدع أحد المنتمين أسلوباً في تناول المسائل أو طوّر اصطلاحاً جديداً أضيف إلى القائمة.‏
  • هذا عن أسلوب التفكير. و الخطوة التالية هي تطوير العلاقة بين الرأي و التصرّف لدى أفراد الكائن بحيث أنّ وجود نفس الرأي لدى أحد أفراد الكائن يقوده إلى نفس التصرّف. هذا أفضل بكثيرٍ من إلزام المنتمين برأي الأغلبيّة.‏

* الكائن المثاليّ غير مسئولٍ عن تصرّفات المنتمين له خارج إطار نشاطه. فإذا أخطأ أحد المنتمين من نفسه فإنّه هو من يتحمّل مسئوليّة خطأه و يحاسب أمام مجتمعه، و ليس على الكائن الدفاع عنه. هذه النقطة بالذات صعبة التطبيق عندنا ههنا و تفتقر لها الكائنات المتشكّلة، و سأتكلّم عنها أيضاً بالتفصيل إن شاء الله، إن لم يسبقني للحديث عنها أحد.‏

هذا بعض من صفات الكائن المثاليّ كافٍ لأن نستخلص منه الخلاصة التالية:

«الكائن المثاليّ غنيٌّ جداً بالمرشّحات، و لا يمكن الحصول عليه، و يلزم البحث عن أفضل تقريبٍ له إن كان لابدّ من وجود كائناتٍ.»‏

فهو إذن ’مثاليٌّ‘ بالمعنى الشائع لهذه الكلمة. و يظلّ هنالك عيبين في نموذج الكائنات، بما فيها تلك المثاليّة، وهما أنّ الكائنات لا تسمح بتعدد الانتماء لكائناتٍ من نفس النوع، و أنّها لا تسمح بإعلان أحد المنتمين العداء على آخر. و يظلّ صلاح الكائن معتمداً على صلاح قطبيّته.

أترك البحث عن التقريب الأفضل للكائن المثاليّ لمن يؤمنون بالكائنات، أمّا أنا فخطوتي القادمة، و التي أعتذر إن كنت قد أخّرتها كثيراً في نظر البعض، فهي عرض نموذجٍ بديلٍ للكائنات، إن شاء الله.‏

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | Leave a comment

أنواع الكائنات

أوّلاً أذكّر أنّ كلمة كائنٍ قصدت بها أن تشمل أسماءً كجسمٍ و حزبٍ و كيانٍ و جماعة ‏‎…‎‏ الخ. وعدت من قبل أن أبحث عن بديلٍ لهذه الكائنات بعد أن انتقدها من وجوهٍ. و إن استعجلني البعض فأنا أفضّل التأنيّ في التعامل مع القضايا العامّة. و سأبني هذا البحث على الأساس التالي: ‏

‏«كثيراً ما يكون الأفضل أن نبحث أوّلاً عن الشيء أو الوضع المثاليّ، ثمّ نبحث بعد ذلك عن أفضل تقريبٍ له إن لم يكن يمكن الحصول عليه أو الوصول إليه.»‏

وعلى الرغم من أنّ البديل الذي أبحث عنه قد لا يكون كائناً مثاليّاً بل شيئاً آخر فاكتمال المعلومة يسهّل المقارنة بين الخيارات. فلنبدأ البحث عن الكائن المثاليّ بتصنيفٍ موجزٍ للكائنات. فمن حيث الأساس القائم عليه الكائن يمكن تقسيم الكائنات إلى نوعين (متداخلين):

  1. الكائنات المستقرة: و هي القائمة على فكرةٍ واضحةٍ و أهدافٍ محدّدةٍ، فيكون الولاء للفكرة قبل الولاء للكائن – هذا ما يفترض أن يكون. ويعتمد مدى التزام الشخص المنتمي للكائن بسياساته على مدى التزام الكائن بالفكرة والأهداف المنشأ لأجلها، ثمّ على مدى ثقة هذا الشخص في بقيّة أفراد الكائن. و الجديد في هذا النوع من الكائنات كالقديم فيه مادام ملتزماً بالفكرة القائدة. على هذا فإنّه لا يسند عملٌ ما لشخصٍ ما ثمّ يترك ليفعله كما شاء اعتماداً على الثقة فيه، و لذلك يقلّ احتمال وجود قطبيّة خارجيّةٍ لهذا النوع من الكائنات ‏‎–‎‏ما دامت الفكرة و المبادئ والأهداف واضحة.
  2. الكائنات المتشكّلة: الفكرة هنا في وجود كائنٍ وحسب – بعد ذلك يقرّر المؤسّسون و المنتمون أهدافاً و مبادئ و دستوراً و قوانين، و الولاء للكائن أوّلاً. ويعتمد مدى التزام المنتمي بسياسات الكائن على مقدار نزعة التعصّب و الولاء عنده، ثمّ على مدى ثقته في بقيّة الأفراد. يكون هنالك بالضرورة أشخاصٌ قدامى في الكائن يمكن أن نسميهم ’أسياد‘ هذا الكائن، و آخرين حديثين فيه يحتاجون لوقتٍ طويلٍ حتىّ يكون لهم الحقّ في نقد سياسة القدماء أو تقديم الاقتراحات (إلاّ من اجتهد!). ظاهر الأمر أنّ هؤلاء القدماء هم قطبيّة الكائن، لكن مادامت الفكرة غير مهمّةٍ في المقام الأوّل فمن السهل لقطبٍ خارجيٍّ زرع أفكاره في كائنٍ كهذا – وسيكون سهلاً بالضرورة في مراحل تكوّن الكائن.

أظنّ أنّك توافقني في أنّ النوع الأوّل أفضل من الثاني بشكل عام، على أنّ النوعين متداخلان: فبمجرّد تحقّق أهداف كائنٍ مستقرٍّ أو ثبوت استحالة تحقّقها يجب أن يحلّ هذا الكائن نفسه و إلاّ فإنّه سيتشكّل و يغيّر مبادئه و يعيد صياغته متحوّلاً بذلك إلى كائنٍ متشكّل (و من هنا جاءتني كلمة متشكّلة: تشكّل نفسها حسب الوضع). افرض مثلاً أنّ حزباً كان اسمه حزب تحرير السودان، و كان هدفه إخراج المستعمر من السودان. ماذا يفعل هذا الحزب بعد خروج المستعمر؟ عليه أن يحلّ نفسه بهدوءٍ. و ربّ قائلٍ إنّها خسارة كبيرة أنّ ينحلّ حزبٌ متماسكٌ كهذا، ثمّ يعمل على إيجاد فكرةٍ جديدةٍ تكون روحاً لهذا الحزب. لا أقول أنّ هذا الحزب سينهار بهذا الفكر الجديد أو أنّه سيخسر أمام الآخرين – مادامت له قاعدةٌ يستند عليها تثق فيه. كلّ ما أقوله أنّ هذا لا ينفع أﮪ.‏

وبنظرةٍ سريعةٍ في الواقع السياسيّ والاجتماعيّ في بلدنا هذا أقول إنّ جميع الكائنات الموجودة هنا تضرب لأن تكون متشكّلةً: ما رأيت كائناً لم يناقض نفسه – ما يسمّونه حكم الضرورة أو فقه المرحلة أو أسلوب السياسة، لكلّ تسميته. و مع هذا التناقض يظلّ المنتمون على ولائهم للكائن. و لا شكّ في أنّ نزعة التعصّب متوطّنة في نفوس الناس في بلدنا هذا، فكلّنا يعرف تعصّبه لهذه الكليّة أو لذاك الفريق أو لهذا الحزب أو لتلك الجماعة، ولو طولبت بتفصيل لفصّلت و لكنيّ لا أجد داعياً لذلك.‏

يمكن أيضاً تصنيف الكائنات من عدّة وجوهٍ أخرى: من حيث العضويّة إلى كائناتٍ متماسكةٍ (محدّدة الأعضاء) و كائناتٍ ’هلاميّة‘ (مفتوحة العضويّة بشكلٍ أو آخر)، من حيث نوع القضايا التي تهمّ الكائن، ومن غير ذلك من الوجوه، وفي كلّ تصنيفٍ يمكن تفصيل مزايا و عيوب كلّ نوع، فإذا اجتمعت لدينا كلّ هذه التصانيف بمزاياها و عيوبها فسيكون من السهل بعد ذلك معرفة الكائن المثاليّ و معرفة التقريب الأمثل له.

هذا كلامٌ موجزٌ عن أنواع الكائنات، فأمّا ما أتمناه الآن فهو أن أسمع ردّاً على هذا الكلام و ما سبقه، سواءً أ وافقني أو عارضني، و أمّا ما أنا عازمٌ عليه الآن إن شاء الله فهو تقديم فكرةٍ مبدئيّةٍ عن شكل الكائن المثاليّ، والله الموفّق.

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | Leave a comment

لا للملل والانفعال وردود الأفعال

بعد الإعلان الثاني لرفع الاعتصام بكليّة الهندسة شاهدت من أقسم بالله ألاّ يعتصم ما كان في هذه الجامعة و ألاّ يشترك في حلّ القضايا العامّة ما حَيِيَ! أهو ’حرد‘؟ وقبل ذلك كنّا واثقين أنّه إذا رفع الاعتصام فلن يقوم اعتصامٌ بعده في بقيّة هذا العام الدراسيّ لأنّ الناس سيشعرون بالملل؛ أضف إلى ذلك ثقتنا التامّة في أنّه إذا كُسر اعتصامٌ في هذه الكليّة فلن يقوم فيها اعتصام بعده إلى ما شاء الله، إلى غير ذلك من الشواهد. لهذا و مادام الشعور بالملل قريباً في الصدور فإنّني أرى أن نأخذ وقفةً عند هذا الأمر قبل أن أرهق نفسي بكلامٍ قد يراه البعض مملاًّ و مكرّراً:‏

* افرض أنّ هنالك جهةٌ ما كان من مصلحتها أن يفشل عملٌ جماعيٌّ معيّنٌ و كان لهذه الجهة عامل خفيٌّ (عميلٌ) في الجماعة المؤدّية للعمل. كيف يمكن لهذه الجهة أن تفشّل العمل بطريقة سلميّة ’نظيفة‘؟ الأمر بسيطٌ: يَدّعي العامل أنّه أحرص الناس على العمل و يقول: ”إنّي به زعيمٌ“ حتىّ يصل إلى موضعٍ مؤثّرٍ يحبط منه كلّ عملٍ. فإذا فشل العمل فهل سيستسلم الناس أم يبحثون عن من (ما) أفسد عليهم عملهم الذي فيه مصلحتهم؟ و لتنظر إلى شعب السودان: ملّ من حديث المتحدّثين باسمه و ادّعائهم السعي لمصلحته و تولّيهم أمره، حتىّ أصبح كلّ مواطنٍ يحلّ مشاكله على طريقته الخاصّة: من قصّر عنه مرتّبه لجأ إلى عملٍ إضافيٍّ، من لم تعجبه المدارس الحكوميّة اتّجه إلى المدارس الخاصّة، فمن لم يجد فليجتهد! من … ولكن من الخاسر في النهاية من مللنا هذا؟ أهو نحن أصحاب القضايا أم من يريد أصلاً أن تفشل قضايانا؟ علينا أن ننظر في الأمر مرّةً أخرى – بنفسٍ صبورةٍ و نظرةٍ ثاقبة. ‏

إن لم تعجبك هذه الفرضيّة أو ظننت أنهّا غير واقعيّة فلتنسها الآن حتىّ نتحدّث عنها بالتفصيل في وقتٍ لاحقٍ إن شاء الله، و إليك بفرضيّةٍ أخرى:

* افرض أنّ شخصاً ما كان مخلصاً لعملٍ جماعيٍّ ما و لكن تنقصه الخبرة و بعد النظر – وهذا يحدث كثيراً. حسب حماس هذا الشخص و إخلاصه وضعه الناس في موقعٍ قياديٍّ و‏‎ ‎وضعوا ثقتهم فيه، و لكن نتيجة لقلّة خبرته و ما إلى ذلك فشل هذا الشخص في هذا الموقع و قاد في النهاية إلى فشل العمل كلّه، فهل سنلقي باللّوم عليه أم على أنفسنا؟ أقول: وإنّ عملاً يستطيع شخصٌ واحدٌ أو قلّة من الناس أن يفسدوه، بقصد أو بغير قصد، لهو عملٌ فاشلٌ من أصله. ثمّ ماذا سنكسب إن ألقينا كلّ اللّوم على شخصٍ لأنّه أخطأ؟ كلّ ما سنكسبه أنّنا قد نخسر شخصاً مخلصاً للقضيّة. هل ’نحرد‘ حقوقنا و مطالبنا لأجل شخصٍ أو بضعة أشخاصٍ أيّاً كانوا؟ هذا لا يعقل.‏

والعبارة الخاتمة يمكن أن تكون:

«إنّ الفشل يحدث و إنّ التفشيل يحدث، والقضايا العامّة لا ينفع الناس فيها الملل و الإحباط و ’الحرد‘، وإنمّا ينفعهم الصبر و العقل و ’طول البال‘.»

الآن فقط يمكنني أن أقول بعضاً مما كنت أريد قوله إن شاء الله.

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | Leave a comment

رؤى جديدة

بعيداً عن قضيّة المطلوبات فإنّني أريد أن أوصل للناس بعض الآراء العامّة، واخترت هذا الوقت بالذات لظنّي أن لن يجدني أحدٌ يوماً ما أصدق منّي هذه الأيام. الآراء تتعلق بـ{الكيانات -الأحزاب – الجمعيّات – الأجسام، وغير ذلك من التسميات لأشياء تتفق كلّها في وجود جماعةٍ من الناس لمناقشة والتصرّف في قضايا عامّة، وأنا أختار أن أقول: ’الكـائنات‘}. بالنسبة لهذه الكائنات خرجت من قبل بالآراء الآتية، و تأكّدت منها عمليّاً بوجودي في أحد هذه الكائنات لثلاثة أيّامٍ:

  • لكلّ كائنٍ لابدّ من وجود قطبيّة (خفيّةٍ) تسيّره في اتجاه لا يعلمه كلّ الموجودين في الكائن. هذا رأيٌ مبنيٌّ على المشاهدة، وليس عندي برهانٌ نظري ٌّ عليه.‏
  • القطبيّة يمكن أن تكون داخليّةً (من داخل الكائن)، أو خارجيّةً تتحكم في الكائن عن بعد بطريقةٍ أو أخرى، والحالة الثانية أسوأ من الأولى لأنّ اتجاه الكائن في هذه الحالة لا يعرفه أيٌّ من الموجودين فيه.‏
  • القطبيّة الداخلية لا تعني بالضرورة القيادة الظاهرية للكائن.‏
  • صلاح أيّ كائنٍ (أعني فائدته الناس) يعتمد على صلاح قطبيّته.‏
  • الفرد داخل الكائن ’محجورٌ على رأيه‘. أقول: إمّا أن يكون الأمر ديناً يؤمن المرء بصواب كلّ ما فيه، و إلاّ فما دام الأمر رأياً فالرأي الغالب ليس هو بالضرورة الرأي الصواب.‏
  • الفرد داخل الكائن ملزمٌ بالدفاع عن آراء قد يكون غير مقتنعٍ بها، بل و قد يعلم أنّ فيها ضرر الناس. بعبارةٍ أخرى ولاء الفرد المنتمي لكائنٍ يجب أن يكون للكائن قبل ولائه لنفسه أو للناس أو لأيّ شئٍ آخر. ‏

إن كنت تتّفق معي في هذه الصفات فإنّني أرى أنّ هذا الوضع لا يستقيم، فماذا ترى أنت؟ عليه فإنّني أوجّهُ النصائح التالية:

* للشخص الحرّ المجرّد من الانتماء لأيّ كائنٍ: أعتقد أنّ أيّ إنسانٍ على وجه الأرض يؤثّر فيك ولو بقدرٍ يسير حسب ’كتلته‘ و ’بعده عنك‘ و ’نوع الوسط الذي يفصل بينكما‘ (حتى لو كان هذا التأثير غير محسوسٍ فإنّه موجودٌ). هكذا أرى الأمر تماماً كما هي الحال بالنسبة للكتل في الجاذبيّة والشحنات في الكهرومغنطيسيّة. غير أنّي لا أعرف إن كان قانون التربيع العكسي قائماً أم لا. أعتقد كذلك أن الكائنات لها كتلةٌ أكبر من كتلة الأفراد، ولهذا فإنّ تأثيرها أكبر. على كلٍّ فهذا موضوع للبحث لنفسه، والنصيحة هي: أنظر حولك و حاول أن تعرف الكائنات القريبة منك في أيّ اتّجاه تسير وكيف يمكن أن تؤثّر فيك.‏

* لمن يرغب في الانتماء لكائنٍ ما: تريّث. إقرأ هذه الرسالة وفكّر في ما فيها قبل أن تقدم على ما تنوي فعله.‏

* لمن يقف على عتبة كائنٍ ما: أنسحب فوراً وأعط نفسك فرصةً لمراجعة الأمر قبل أن تفقد كلّ شئٍ.‏

* لمن ‏’تورّط‘ (لا أقصد إساءةً بهذه الكلمة ولكن لم يحضرني غيرها) داخل كائن ما: أَعلمُ أنّ انسحابك أضحى صعباً و قد تفقد معه الكثير: مكانتك في الناس و ثقتهم فيك و مكانتك داخل الكائن و فرصتك في الانتماء من جديدٍ (إن أردته) …، لكنّك ستستعيد ثلاثة أشياء: حريّتك و ثقتك في نفسك و راحة ضميرك، وبهذه الثلاثة في كفّك يمكنك أن تستردّ أيّ شئ. لا تدع الغلط يجرّك إلى الغلط الأكبر منه، فالسيّئة تنادي أختي أختي … الأثر.‏

* للكائنات الموجودة‏: أنصح بأن تتحوّل هذه الكائنات إلى جهاتٍ علميّةٍ و استشاريّةٍ تصدر آراء و تحليلاتٍ و إحصاءاتٍ و نقداً بدلاً من أن تصدر تصرّفاتٍ و قراراتٍ تلزم من فيها.‏

* أمّا أهميّة الكائنات في تنظيم أمر الحكم فليس عندي البديل الآن و لكنّي سأجده إن شاء الله.‏

أقول هذه الآراء وأنا لا أمثّل إلاّ نفسي، وأختمها بهذه العبارة:

«علينا أن نعرف ما الصواب و ما الخطأ لا أن نعرف من المصيب و من المخطئ، فليس فينا نبيٌّ معصومٌ ولا شيطانٌ رجيم.»‏

ثمّ أقول إنني قد كتبت اسمي هنا لا حبّاً للظهور ولكن ليجدني من يريد مناقشة هذه الآراء، إن وُجد؛

Posted in Arabic, رؤى جديدة | Tagged | 1 Comment